من يراهن على حل سياسي بوتيني بالشام يتجاهل إرثاً روسياً لقرون
ما فشل به القياصرة والبلاشفة وأخيرا أحفادهم في عصر البيروستريكا لقرون يخال بوتن أن ينجزه وحده في الشام، فقد كان حلم رومانوف وكاترينا لقرون الوصول إلى المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط الذي تغنى به الشعراء، والذي قامت على ضفافه الحضارات، ولم تحفر الإمبراطورية الرومانية اسمها تاريخيا وجغرافيا إلا بعد أن سطت على شطآنه، ولكن روسيا بوتن تتجاهل التاريخ الصادع والصارخ بوجهها أن لا موطئ قدم لها على المتوسط طيلة تلك القرون، وإن حصلت عليه خلسة أو سرقة لبعض الوقت اليوم بسبب عملاء وخونة لها، فهي تدرك تماما أن العملاء لا يمدون حياة السيد إلى أمد بعيد، ولو كان هذا ممكنا لكان لها في عملاء الأفغان أنزيم ومغذ كاف للبقاء على مرمى حجر من أراضيها، فكيف لها أن تبقى بعيدة آلاف الأميال عن أراضيها، ووسط بحر شعبي متلاطم معاد لها ولاحتلالها الشام التي لها رنين شرعي وتاريخي كبير وسط العالم الإسلامي كله؟
هذه ليست مقدمة رغائبية أو أضغاث أحلام نمني بها أنفسنا، ولكنها حقائق تاريخية تعززها وتساندها مقاومة شعبية وثورة تاريخية عالمية بكل المقاييس إن كان من حجم التآمر العالمي الكوني عليها، أو من حيث حجم الخذلان الذي تتعرض له، أو من حيث التضحيات التي قدمتها، ولا يزال مخزونها التضحياتي يقذف بحممه بها على مذبح الحرية والانعتاق من نظام عالمي رهيب كبلنا به لقرن ونيّف.
أزعم أنني طالب في مدرسة التاريخ، ولا أعرف على مدى هذه القرون الروسية أنْ حلّ الروس قضية بشكل سياسي، فالدب الروسي الذي يلعب ببيوت خزف جميلة دمشقية وأوكرانية وجورجية وأفغانية وهنجارية وفي آسيا الوسطى من قبل، لا يعرف إلا التدمير والقتل والسحل، وقد قامت دولته على أنقاض وجماجم ضحايا تتخطى الملايين من الشهداء والقتلى، ولا يزال الدب الروسي نهِمًا للمزيد من الدماء.
ليس في قاموس الروس تفاوض، وإن كان فتفاوض من أجل التفاوض، وحوار من أجل الحوار، ما دامت طاحونة القتل والدمار على حساب دماء الآخرين متواصلة، وما دام الحوار يوفر لهم غطاء دوليا لاحتلالهم وإجرامهم، بل ويزيدهم انفتاحا على العالم بذريعة التفاوض، فضلا عن أنه يوفر لهم تعهدا من الطرف الآخر بعدم تزويد وتوريد الأسلحة النوعية لثوار سوريا، وهو ما يضمن لهم قتلا رخيصا للشعب السوري.
سياسة الأرض المحروقة المعتمدة روسياً لم تنتعش وتزدهر في عصر بوتن فقط، وإنما متأصلة في الجينات الروسية منذ عصر القياصرة والبلاشفة، فهي السياسة الممنهجة والملقنة بالمدارس والجامعات، ولذا فالتعويل على غير ذلك كمن يسعى إلى قبض الريح ويبحث عن السراب، وكل التعلق بالشكليات من زيارة طاغية الشام إلى روسيا من استدعاء واستقبال و..و.. إنما هو لحرف الأنظار عن جرائمهم والتغطية عليها، ولعل وزير الخارجية القطري خالد العطية استدعى ذلك التاريخ وتلك الممارسات كلها أمامه حين تحدث عن حل عسكري بمشاركة تركية-سعودية، بالإضافة إلى التنسيق الثلاثي بين تلك الدول وهو ما يظهر قراءة تاريخية صحيحة، ويظل الناظم هو بالقدرة على دعم الثوار بأسلحة نوعية متطورة، ففشل اتفاق فيينا أكد أن الممارسات والإرث الروسي يصبان في محيط الإجرام الروسي ما دامت سياسته متصحرة، فما يهم الروس والأميركيون الآن هو الحوار من أجل الحوار، مع ضمان طاحونة القتل والدمار والخراب للشام.
هنا نصل إلى مربط الفرس كما يقال، إذن ما الحل؟ الحل باختصار هو بترجمة شعار رفعه الشعب السوري منذ البداية مدركا بحسه الفطري الذكي أن لا ناصر له إلا الله فاختصره بشعار «ما لنا غيرك يا الله»، وترجمته تكون على أيدي النخب السورية من فصائل عسكرية مسؤولة بالدرجة الأولى أمام الله ثم الشعب والتاريخ، وكذلك النخب العُلَمَائية المشيخية، والنخب الثقافية والسياسية والإعلامية، وكل أنواع النخب القادرة على أن تشكل رافعة وحاملا للثورة، فهذه الثورة بحاجة إلى حوامل ورافعات عدة، ولا يمكن الاكتفاء بواحدة دون غيرها.
وبقدرة علماء الشام أن يلعبوا دوراً كبيراً في التعجيل بالنصر، وتقليص مسافته، وأس دورهم بتجييش الأمة وتعبئة الشارع العربي والإسلامي، وتوضيح الصورة الحقيقية المغيبة للأسف حتى الآن، والتي لم يجرؤ على الحديث عنها إسلاميون ملتزمون فضلا عن العوام، وهذا كله بسبب فشل القيادة السياسية والمشيخية السورية في توضيح الصورة، وإلا فإن الاحتلالين الإيراني والروسي للشام قادران على تعبئة الشارع العربي والإسلامي والضغط على الحكومات من أجل الانتصار للشعب الشامي، على الأقل كما حصل إبان أفغانستان أواخر القرن الماضي.
الحل العملي والسريع يكمن بلجوء العلماء إلى الشارع العربي والإسلامي بطوافهم حول الدول العربية والإسلامية واستثمار منابر الجمعة في التعريف بما يجري في الشام، يرافقه إقامة المؤتمرات والمعارض التي توضح همجية الاحتلالين، مع الدعوة إلى مقاطعة هذه الدول سياسيا وعسكريا واقتصاديا و..و.. كله يشكل ضغطا ليس على الحكومات المتعاملة مع قوى الاحتلال فقط، وإنما يساعد الحكومات الصديقة في تخفيف الضغوط الدولية عليها لموقفها المشرف من الثورة، فلا يعقل أن يتحرك كهنة وأحبار النظام ويتفرج شيوخ وأعلام ورموز الثورة من العلماء، وهذا لا بد له من أن تتبرع الدياسبورا السورية المنتشرة في أرجاء العالم بوقتها وبجهدها وبعلاقاتها في التحضير لهذا التحرك، ويا حبذا عقد مؤتمر موسع لهذا الدياسبورا السورية ليضع النقاط على حروف التحرك الشامي نصرة للشام وإنقاذا لها، على غرار المؤتمر الصهيوني الذي عقد في بال.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة