ما الفرق بين [تقدير النفس] و [الثقة بالنفس]؟!
سؤال : ما الفرق بين مصطلح (تقدير النفس) ومصطلح (الثقة بالنفس) ؟!
لم أكن يوما مرتاحا لمصطلح (الثقة بالنفس) ، على الرغم من تردده على ألسنة الناس (عوامهم وخواصهم) ، وعلى الرغم من انتشاره (الوبائي) في أروقة (التنمية البشرية) . وعدم ارتياحي لم يكن له سبب ظاهر واضح المعالم بعد ، إنما هو لشيء في نفسي ! وربما كان من أسباب ذلك ما يلي:
أولا) المعنى اللغوي لمفردة الثقة، وهو: الائتمان والإحكام والتصديق واليقين والعهد ؛ وهذا المعنى لم أكن أرى أنه يتناغم مع طبيعة النفس الإنسانية وتقلباتها وما ورد من صفات لها في القرآن الكريم والسنة النبوية .
ثانيا) أنني لم أقف على مفهوم “الثقة بالنفس” لفظا أو معنى في نصوص الوحيين أو قصص الصالحين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، بل إن الأصل في الدين التوجس من النفس .
ثالثا) الأثر النفسي السالب لسعي الإنسان نحو هدف اسمه (الثقة بالنفس) في حين يمكن أن أحصل على ما أتمناه من ثمرات إذا سعيت نحو أهداف أكبر، بحيث يكون ما أرجوه في نفسي ناتجا من نواتج هذا السعي (غير المباشر)؛ أما إذا كان شغلي الشاغل (الثقة بالنفس) فإن هذا ربما كان سببا في أن (أغفل) عن المعوقات الحقيقية والخطيرة التي تقف في طريق تزكيتي لنفسي.
ويتبع السبب الثالث أيضا: ما رأيته من إفرازات ما تقدمه دورات التنمية البشرية تحت عناوين (كيف تثق بنفسك؛ كيف تسيطر على الآخرين؛ كيف تؤثر في الآخرين؛ كيف ينقاد لك الآخرون؛ وغيرها) وما تخرجه للمجتمع من نفوس رأيت (كثيرين منهم) يعانون من تعظيم الأنا والعُجب والغرور والكِبر.
أقول: كان في نفسي شيء من هذا، ولكني لم أملك يومها حجة (علمية) كافية على (نفوري) هذا!
وحتى ذلك الوقت، كنت أستخدم مصطلح (تقدير النفس) لاعتقادي بأن مفردة (تقدير) في معناها اللغوي كافية لبلوغ ما نريده في رحلتنا الحياتية مع النفس البشرية. فمفردة (تقدير) في اللغة مصدر من (القَدْر)، ومعناه : قيمة الشيء ومكانته وحقه، وقدرته وطاقته وقوته، وتدبيره وتسويته، وقياسه، وحكمه (أو الحكم عليه)، ومبلغه أو غايته.
وبإسقاط هذه المعاني (اللغوية) على النفس الإنسانية، يمكنني أن أعلم حينها أن (تقدير النفس) يعني: إعطاء النفس حقها، ووضعها في مكانتها دون إفراط أو تفريط، وتقويتها، وتدبيرها وقياسها والحكم عليها (أو محاسبتها وجردها وتقييمها)، وتبليغها غايتها.
وهذا هو ما أرتاح إليه في تناولي للنفس الإنسانية، وهذا هو ما أدندن حوله في (تزكية النفس): أن أعرف نفسي وأن أعلم مواطن ضعفها وقوتها، وأن أقيّمها بصدق، وأن أعطيها حقها، وأن لا أزكيها بجهل، وأن لا أقسو عليها بظلم، وأن لا آمنها دون حذر، وأن لا أهجرها دون توجيه، وأن لا أقصر في تزويدها بما يقويها ويبلغها ما خُلقت لأجله وما يُسعدها. هذا هو فهمي لـ (تقدير النفس).
أما (الثقة بالنفس) بمعنى (ائتمانها والتصديق بها واليقين بذاتها) فهو ما لا أرتاح إليه.
لكنني، كما ذكرت، لم أكن أملك في جعبتي حجة تطمئنني أو ترجح ما أقوله. حتى قدر الله أن أقرأ في كتاب [معجم المناهي اللفظية] أنه سأل أحدهم شيخا: (هل تجب الثقة بالنفس؟) فأجابه الشيخ: (لا تجب، ولا تجوز). فتوقفت هنا، وكأنني وجدت كنزي المفقود، وأكملت القراءة: (أما سمع هؤلاء بقوله صلى الله عليه وسلم: اللهمّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين). فقلت: وجدتها.
وأصل النص هنا:
عن أبي بكرة، نفيع بن الحارث الثقفي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم رحمتك أرجو، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت)). [صحيح الأدب المفرد لـ الألباني]
لافتة: هذا هو الفرق بين (العلماء) والمتطفلين على موائد أهل العلم (مثلي). أنا أحفظ الحديث، وأدعو بالدعاء المأثور، ولكنني لم أتنبه يوما إلى المعنى الذي كنت أبحث عنه كثيرا وهو على (لساني)، ولكن الظاهر أنه لم يكن في (قلبي)! اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع!
ثم كان هذا دافعا لي أن أراجع نصوص الوحيين في (قراءة) جديدة على غير سابقاتها في نفسي، فكان مما وجدت ما يلي:
((إياك نعبد وإياك نستعين)) [القرآن/الفاتحة/5]
((قال: يا قوم، أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا، وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب)) [القرآن/هود/88]
((ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا، إلا أن يشاء الله، واذكر ربك إذا نسيت وقل: عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا)) [القرآن/الكهف/24]
((ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا)) [القرآن/الكهف/39]
وروى البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه:
كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنا إذا علونا كبرنا؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس اربعوا على أنفسِكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، ولكن تدعون سميعا بصيرا)). ثم أتى علي وأنا أقول في نفسي: لا حول ولا قوة إلا باللهِ، فقال: ((يا عبدالله بن قيس، قل: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة)). أو قال: ((ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله)). [صحيح البخاري]
وعن أبي هريرة وواثلة بن الأسقع رضي الله عنهما: إن الله جل وعلا يقول: ((أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيرا فله، وإن ظن شرا فله)) وفي رواية: ((إن ظن خيرا فخيرا، وإن ظن شرا فشرا)) وفي رواية: ((فليظن بي ما يشاء)) [صحيح ابن حبان]
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه وعلمه دعاء، وأمره أن يتعاهده ويتعاهد به أهله كل يوم. قال: قل حين تصبح:
((لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، والخير بين يديك ومنك وبك وإليك، اللهم ما قلت من قول أو حلفت من حلف أو نذرت من نذر فمشيئتك بين يدي ذلك كله، ما شئتَ كان وما لم تشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بك إنك على كل شيء قدير. اللهم ما صليت من صلاة فعلى من صليتَ، وما لعنت من لعن فعلى من لعنتَ، أنت وليي في الدنيا والآخرة، توفني مسلما وألحقني بالصالحين. اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، وشوقا إلى لقائك، من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، أعوذ بك أن أظلم أو أظلم، أو أعتدي أو يعتدى علي، أو أكسب خطيئة أو ذنبا لا تغفره. اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ذا الجلال والإكرام، فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا وأشهد وكفى بالله شهيدا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، لك الملك ولك الحمد، وأنت على كل شيء قدير؛ وأشهد أن محمدا عبدك ورسولك، وأشهد أن وعدك حق، ولقاءك حق، والجنة حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنك تبعث من في القبور. وأشهد أنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعيف (أو وهن) وعورة وذنب وخطيئة، وإني لا أثق إلا برحمتك فاغفر لي ذنوبي كلها، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وتب علي إنك أنت التواب الرحيم)) [حسن، وضعفه الألباني]
ثم كان أن قرأت عن دورة تدريبية للدكتورة فوز كردي (حاصلة على دكتوراه في العقيدة والأديان والمذاهب المعاصرة ، وباحثة متخصصة في الفكر العقدي الوافد ومنهجية التعامل معه) بعنوان: "ثق بربك لا بنفسك".
ورحم الله القائل (لم أقف على اسمه):
إذا لم يكن عون من الله للفتى * فأول ما يقضي عليه اجتهاده
هنا، جلا الأمر، واتضحت الصورة، وبانت الحجة؛ وظهر لي رجحان مصطلح (تقدير النفس) على (الثقة بالنفس) .
سؤال: هل هذا يعني أن استخدام مفردة (الثقة) عند الناس وكثير من الدعاة والوعاظ حرام؟!
جواب: الأصل أن يتعلم الإنسان ما هو أصح وأحسن وأسلم، ولكن تحريم الأمر فيه تجاوز وتعدي على الناس، فالأمر يحتمل التأويل، والناس يقعون فيما هو أخطر من ذلك في حياتم اليومية، ولكن العلماء يتجاوزون عن كثير إذا احتمل التأويل، وهكذا. فالأمر فيه سعة، والحمد لله على رحمته الواسعة.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن