من مظاهر عقوق الوالدين
جاء في الأثر ما معناه أنَ سيدنا موسى عليه السلام طلب من الله تعالى أن يريه رفيقه في الجنّة، فأخبره الله تعالى بأنّه أوّل مارٍ يمرّ به، فلمّا كان أوّل تبعه موسى عليه السّلام ليعلم بم استحق هذا الرَجل تلك الرتبة السّنيّة الرّفيعة وهي مرافقة كليم الله في الجنّة، فوجده قد دخل بيتاً على امرأة طاعنة قد هدّها العجز، ورقّ منها العظم، وضعف العزم، واحدودب الظَهر وارتجفت اليدان، وما عادت تقوى على الحمل الرجلان، وبهت البصر، ووصلت إلى أرذل العمر – نسأل الله العافية – فكان بها رحيماً، ولها برّاً عطوفاً، ما ترك شيئاً من حاجاتها إلاّ فعله، ما استنكف ولا تأبّى أن يقوم بعمل هي بحاجة إليه مهما شقّ وصعب، ولا أنفت نفسه عنه ولو كانت تعافه نفوس الغرباء، أجزل لها الخدمة فأجزل الله له العطاء. وعندما تبيّن لموسى أنّها أمّه سأله: أولا تدعو لك؟ قال: بلى، تدعو وتقول اللهم اجعل ابني رفيق موسى بن عمران في الجنّة.
الله أكبر ما أروع المعاني في هذا الأثر.
ولا شك أنّ أكثر الأخوات الفاضلات يعرفن حديث الرّهط ممن كان قبلنا الذين سدّت عليهم صخرة باب الغار الذي كانوا فيه، وكيف دعا كلّ واحد منهم الله بصالح عمله كي يفرِج عنهم، فتنزاح الصّخرة قليلاً قليلاً بعد كلّ دعاء غير أنّهم لا يستطيعون الخروج، إلى أن انزاحت وخرجوا جميعاً. لقد دعا أوّلهم بما فعله مع أبويه حين جاء ليطعمهما فوجدهما قد ناما، وكان لا يقدِم عليهما في الطّعام أحداً قط، فكره أن يوقظهما فلبث واقفاً حتى الفجر ينتظر استيقاظهما، وأولاده يتضوّرون من الجوع حتى استيقظا وطعما.
يا الله كم هو بارٌ هذا الرّجل بأمّه وأبيه، ولا نحسبه قطعاً – إذا افترضنا جدلاً – وهو في هذه الرُتبة العالية جداً من البرّ، لو أصاب أبويه ما أصاب أمَ رفيق موسى كان ليختلف في معاملته لهما عن رفيق موسى.
وفي ديننا الحنيف وعلى لسان النبيّ الحبيب الطَبيب محمد ﷺصلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى:﴿وبالوالدين إحسانا﴾،ويقول تعالى:﴿ووصَينا الإنسان بوالديه حسناً﴾، ويقول تعالى:﴿ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمُه وهناً على وهنﹴ وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك﴾. ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن أحب العمل إلى الله:"... برّ الوالدين..."، وعندما سئل عن أحقّ النّاس بحسن الصّحبة قال:"أمّك... أمّك... أمّك" ثم:"أبوك" وغيرها كثير.
إنّ هذه الآيات والأحاديث التي وردت للتوّ تناولت الأمر برّ الوالدين من حيث العموم، فلم تربط برّهما بأي حالة من الأحوال التي تعتري البشر: كالعجز والصحة، والكفر والإيمان، وسوء الخلق وحسنه، والفقر والغنى...الخ، بل أطلقت الأمر ببرّهما في كلّ حال، فبرُ الوالدين – أيّها الناس – من أفضل القربات إلى الله تعالى.
ولكن ما الذي يقابل هذا البرّ؟؟ إنّه العقوق أيّها الأبناء. ونحن نسأل: هل كل المسلمين يفقهون معنى العقوق؟ ما هو، كيف حالاته، هل يحل العقوق في بعض الأحايين ويحرم في بعضها أم يحرم مطلقاً وهل يتعلّق برُ الوالدين بما يعتريهما – كأي فرد من النّاس – من الحالات البشرية؟
إنّه حاشى للشريعة المطهّرة أيّها المسلمون أن لا تكون قد بيّنت للناس أحكامهم وفصّلت الحلال والحرام وألزمتهم الحجّة يوم يقوم الأشهاد للملك الديّان. وسيأتي بعون الله تعالى نص الآيات والأحاديث التي تتعرّض لكل حالة من حالات برّ الوالدين والأمر الإلهي فيها.
هناك فئات من النّاس أيتها القارئات الكريمات واأسفاه كم استحوذ عليهم الشيطان الرّجيم وأعوانه من الجنّ والإنس في مسألة بر الوالدين فأقعد لهم صراط الله المستقيم وأغواهم وزيّن لهم فأرداهم وأحبط أعمالهم. ونحن إذا أردنا استعراض بعض مداخل الشيطان على هذه الفئات وطريقته في التزيين لهم والتلبيس عليهم لحرفهم عن منهاج الله وصراطه المستقيم يقول:
- يأتي الشيطان فئة من هؤلاء فيقول للواحد منهم: إنّ أبويك – أو أحدهما – سيّئا الخلق ولربما يهينانك أو يحقِرانك أمام النّاس بسبب سوء خلقهما فلماذا تهين نفسك وأنت المسلم الذي كرّمه الله في كتابه وعلى لسان أنبيائه؟ أوليس المسلم عزيزاً لا يهين نفسه؟ قابل إساءتهما بالإساءة فهما البادءان بها ولست أنت، وإذاً فليتحمّلا تبعة عملهما وسوء خلقهما "وعلى نفسها جنت براقش"، اهجرهما ولا تصلهما حتى يرجعا عن سوء خلقهما. فيسقط هذا المسكين في حبائل الشيطان ويضلَ سعيه وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، فيوقع في أبويه هجراً وسوء معاملة وسوء خلق – ولله درُه وأمثاله، ألم يسمعوا بالحديث الذي قال فيه رجل كان يعاني من سوء خلق قرابته للنبيّ ﷺ: يا رسول الله إنّ لي قرابة أصلهم ويقطعونني، أحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليَ، فقال:"لئن كنت كما قلت فكأنما تسفُهم الملَ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك". فإذا كان هذا في حقّ القرابة، فكيف بحقّ الوالدين وهو أعظم وأكد من حق القرابة بكثير؟؟!
- ويأتي الشيطان فئة أخرى ليقول للواحد منهم:إنّ والديك – أو أحدهما – كافران مرتدّان، أوليس الكافر حقيراً وقعوداً، وسبَهما وحقَرهما تقرُباً إلى الله، لا تقم بواجبهما وألِب النّاس عليهما حتى تشعرهما بالتحقير والمهانة فإنّ هذه هي منزلة الكافر في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وهذا شيخك "العالم العلاّمة الفهّامة المحدِث الحافظ... الخ" الذي لا يجري على لسانه إلاّ الحق والصدق قد أفتاك بكفرهما. فيقع هذا الأحمق – تعس وخاب هو وشيخه – في اللذين ربّوه بدموع العينين وسهر الليالي والجهد المضني الذي لا يعرف الراحة ولا الكلل، يوقع فيما أذيّة وتجريحاً وشتماً وتحقيراً ولربما وصل به الأمر إلى ضربهما نعوذ بالله من سوء المنقلب.
ولو أننا افترضنا أنّ الوالدين واقعان في الكفر معاً وليس بشبهة باطلة لا دخل لها بالعلم ولا بالعلماء، أولم يخبره هذا الشيخ "المحدِث" بحديث أسماء بنت أبي بكر التي قالت: قدمت عليَ أمي وهي مشركة، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: قدمت علّ أمّي وهي راغبة أفأصلها؟ قال:"نعم، صلي أمك". أولم يقرأ عليه أيضاً الآية الكريمة في حق الوالدين الكافرين:﴿وصاحبهما في الدنيا معروفاً﴾ إنها شياطين الإنس أيتها الأخوات الكريمات، وما أكثرها في زماننا.
- ويأتي فئة أخرى فيقول للواحد منهم: لم تعذِب نفسك بإبقاء والدك – أو والدتك – العاجز الذي لا يستطيع حراكاً في منزلك؟ هل تريد أن تذر أعمالك وأشغالك وتتفرّغ لخدمته؟ هل هذا من الدِين الذي يأمرنا أن نسعى في مناكب الأرض؟ ومن يطعم عيالك إن أنت فعلت ذلك؟ أتريد لهم أن يتكففوا الناس؟ وهذه زوجتك "المسكينة" وأم عيالك لا تطيق خدمته وتتفجّر غيظاً من وجوده وتتأفّف من كثرة مطالبه،لا تكثير عليها ولها الأعذار، فإنّ معها بعض الحقّ، لأن الإنسان العاجز ثقيل على الناس، أتريد أن تذر زوجتك بيت الزوجية وتترك لك العيال؟ أمن العقل والحكمة أن يقع بينك وبينها أبغض الحلال؟ ثم إنّ إخوتك الشباب الذين هم أحق باستضافته منها لم يطق أحدٌ منهم تحمّله في منزله فلماذا تحمّل نفسك فوق طاقتها والله لا يكلّف نفساً إلا وسعها؟ إنّه لمن شعار فخارك أنك كنت بارّاً به أيام صحته، وموازينك لا شك مثقَلة عند ربك وأنت من الرّاضين المرضيِين!! ولكن لك قدرة محدودة على الاستيعاب والتحمّل، والله يرضى لك الشقاء وهو أعلم بحالك. فإلى متى تبقى منغَص العيش مهموماً؟ ثم إنّك لن ترمي والدك في الشارع، بل ستضعه في "مؤسسة خيرية" تهتم به وتقدّم له "أفضل العناية" مقابل المال، وأنت ستزوره دائماً هناك فلا يشعر بالوحدة. ولا يزال الشيطان اللّعين ينفث في روع هذا البائس، ويزيِن له ويعده ﴿وما يعدهم الشيطان إلاّ غروراً﴾ حتى ينزل صاغراً عند رأي زوجته غير ذات الدِين، ويعقّ أباه فيحمله إلى دار العجزة، مثله في ذلك كمن يحمل متاعاً بالياً من بيته إلى "سوق العتق" ليبيعه هناك بالثمن البخس بعد أن استهلكه باستعماله السنين الطِوال، ثم بعد أن قضى حاجته منه رماه. أهكذا يكون ردّ الجميل يا عبد الله؟ أبعد أن أفنى هذا الوالد عمره في تربية أولاده تكون جائزته منهم العقوق والرمي مع أصحاب الخليفة العاقّة أمثالك، يعانون في آخر حياتهم الوحدة والعزلة والحسرة والعذاب النفسي؟ أكلُ ذلك طاعة للزَوجات؟ صدقت يا سيدي يا رسول الله، فعندما سئلت عن أمارات السّاعة ذكرت منها:"... وإذا عقّ الرجل أمّه وأطاع زوجته...". وها نحن فيها يا رسول الله.
اقرؤوا يا من تسوّل لكم نفوسكم رمي الوالدين عند الكبر في دور العجزة لترتاحوا منها آية من كتاب الله واتّعظوا:﴿إمّا يبلغنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً* واخفض لهما جناح الذُل من الرّحمة وقل ربِ ارحمهما كما ربَياني صغيراً﴾. فقد قال الله تعالى:﴿عندك﴾ ولم يقل عند دار العجزة فلماذا تبدِلون الخبيث بالطيب؟ ألا تحبّون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنّة لبرّكم والديكم عند الكبر؟ يقول الرّسول الكريم صلوات ربّي وسلامه عليه:"رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف، من أدرك أبويه عند الكبر، حدهما أو كليهما، فلم يدخلاه الجنّة".
إنّ هناك قاسم مشترك ما بين الطفولة والشيخوخة وهو الضعف والحاجة في قيام النفس إلى معونة الآخرين:﴿الله الذي خلقكم من ضعفﹴ ثم جعل من بعد ضعفﹴ قوّةً ثم جعل من بعد قوّةﹴ ضعفاً وشيبة﴾، فطفلك الذي بين يديك أيّها الولد والذي هو بحاجة إلى عطفك وشفقتك وحنانك هل تراودك نفسك لحظة من نهار أن ترسله إلى "دار" ما ليعتنوا به؟ فكيف تجرؤ على أن تفعل ذلك بحق هو أحق بصحبتك وعطفك وشفقتك وله اليد الطولى في الإفضال عليك.
أذكِرك في الختام بقول الله تعالى:﴿وتلك الأيّام نداولها بين الناس﴾ وبأنك سائر نحو الشيخوخة رغماً عنك، فهل فكّرت وأنت تقدم على هذا العمل كيف ستكون آخرتك ثم تنام بعد ذلك هنيئاً قرير العين؟؟
فاتقِ الله يا عبد الله فيما أمر ولا تجزي الإحسان إلاّ بمثله أو بأحسن منه، وأحسن كما أحسن الله إليك.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
هل تظنُّون؟!
السنوار... رسالة الرمق الأخير
فلْتَكُنِ العربيّة مادّة وازنة!
من شموس المشرقين.. في تاريخ هذا الدين!
فكُن إيجابيًّا