مراقي العلا
هو خلقٌ عظيم، وغايةٌ كريمة تتعشّقه النفوس الكبيرة، وتهفو إليه الفِطَرُ السليمة.
عْلوّ الهمة يعني الجِد والعمل وعدم التراخي والكسل.. هو نفس طمّاحة وثّابة لا ترضى بالدون كما يقول ابن الجوزي: «من علامة كمال العقل: علوّ الهمة، والراضي بالدون دنيء»..
وقد حرص الإسلام على التحلي بهذا الخُلُق، ودعا إلى التنافس والتسابق إلى المجد والمعالي، قال تعالى: ﴿ وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربِّكم وجنةٍ عَرْضُها السموات والأرض أُعدّت للمتقين ﴾ وقوله تعالى: ﴿ فاستبِقوا الخيرات ﴾.
كما روى الطبرانيّ من حديث حُسَيْن بن عليّ قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سَفْسافها» ويقول ابن القيم: «وللهِ الهممُ ما أعجب شأنها، فهمّةٌ متعلقة بالعرش، وهمّةٌ حائمة حول الأنتان».
كبير الهمة يرتحل دائماً في دروب الفضائل والمكارم، له عين على الدنيا يُصلحها ويعمّرها بالخيرات، وعين على الآخرة يجتهد لها بالأعمال الصالحات والمبرّات، غايته حياة خالدة في جنة عالية، لا تعب فيها ولا نصب، ولا نقص ولا كدَر ولا هَمٌّ ولا حزن، بل نعيم مقيم ورضوان من الله عظيم.
أما ساقط الهمة فهو العاجز الضعيف، يسخِّر أوقاته في العمل على إشباع أهوائه وشهواته، عرضُه تافه، ومطلبه رخيص، يتّكل على الأماني الفارغة، فيضيِّع عمره ويكون من الخاسرين. ولذلك حذّر السلف كثيراً من سقوط الهمم; فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: «لا تَصْغَرن هممكم فإني لم أر أقْعَد عن المكرمات من صِغَر الهمم».
علوّ الهمة يورد صاحبه موارد التعب، ولكنه التعب في سبيل الوصول إلى العلياء، فمَن طلب المعالي لا بد له من البذل والجِد وعدم الراحة، والذي لا يتعب في غايته ولا يسقيها من ماء همته وعزيمته فلن يدركها:
تريدين إدراك المعالي رخيصة
ولا بد دون الشهد من إبر النحل |
وقد سئل الإمام أحمد: يا إمام، متى يجد العبد طعم الراحة؟ فقال: «عند أول قدم يضعها في الجنة»..
فالجنة محفوفة بالمكاره، والجنة لا تكون أهلاً إلا لمن يزرعها، ولا تعطي جَناها إلا لمن يتعب من أجلها، ولذلك كان مجد الآخرة أعظم المجد، وكان ابتغاؤه أعظم الغايات، وكان هو الهَم الأكبر للمؤمنين الصادقين ذوي الهمم العالية والنفوس الكريمة، وكانت أعظم الأعمال عندهم هي التي تبلّغهم محبة الله والشوق إلى لقائه ورضوانه. وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي خير أسوة لطالب الهمة، فهو أعظم البشر مكانة، وأرفعهم شرفاً ومجداً، وأعلاهم هِمة وعزيمة في عباداته وطاعاته وجهاده، وكان لتربيته الصحابة الأبرار أثر كبير في التطلع إلى معالي الأمور...
فأية همّة أعظم من همة أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية التي قاتلت يوم أحد، وخاضت في أعداء الله يَمنة ويَسرة وجُرحت اثني عشر جرحاً وهي تذود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وليست هِمّة الفاروق عنا ببعيدة حتى إنه من عظمة همته في طلب الحق قال له عليّ رضي الله عنه: «لقد أذللت الخلفاء بعدك يا أمير المؤمنين» همةٌ أخرجت الدنيا من قلوبهم توقاً إلى ما عند الله تعالى...
سلفنا الصالح هجروا الراحة طلباً للراحة، شمّروا عن هِممهم، وسطّروا في صحائفهم جلائل الأعمال، ليكونوا من السابقين المقرّبين عند رب العالمين.
فهذا الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه زَهِد في الدنيا بعد القدرة عليها، كانت له نفس توّاقة، كلما حقق هدفاً تاقت إلى ما هو أعلى وأسمى، فها هو يقول عن نفسه: «إنّ لي نفساً تواقّة، وإنها لم تذق في الدنيا طبقة إلا تاقت إلى التي فوقها، حتى إذا ذاقت الخلافة وهي أرفع الطبقات، تاقت إلى ما عند الله عز وجل - أي الجنة».
والإمام البخاري رضي الله عنه كان يستيقظ في الليل، يسجِّل ما يخطر له، يوقد السراج في كل مرة ويطفئه.
أما الإمام النووي رضي الله فله همة تعانق السماء، كان لا يملّ ولا يكلّ من البحث في الكتب. وقد سئل عن نومه فقال: إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة وأنتبه... سرى علمه في الآفاق وتخرّج على يديه الكثير من الفقهاء والعلماء.
ولننظر إلى همّة صلاح الدين الأيوبي، ذلك البطل المسلم الذي ربّى جيلاً مؤمناً في زمن العز وعلوِّ الهمم، بقي ممتنعاً عن الضحك عشرين عاماً، ولما سئل عن ذلك قال: كيف أضحك والمسجد الأقصى أسير؟ فما رؤي ضاحكاً إلا بعد أن قهر الصليبيين في معركة حطين، وهزمهم هزيمة منكرة كسرت شوكتهم وتم له فتح بيت المقدس وتحرير الأقصى وفلسطين.
إنها الهمم التي تتّقد في قلوب أصحابها، إنها العزائم التي لا ترضى بغير الله بديلاً، ولا تبيع حظها بشيء من الحظوظ الدنيوية الدنيئة الخسيسة.
فما أحوجنا إلى همم كتلك التي في زمن سقطت فيه الهمم، فأمتنا تنتظر همةً عمرية، وصَيْحة أيوبية، وهَبّة قسّامية توقظها من غفلتها وسُباتها، وتعيد لها أمجادها وتاريخها. فلْنَسِر على جادّتهم، ولنغتنم أوقاتنا وأعمارنا جِدّاً وتشميراً، فالبقاء يسير، والرحيل قريب، والزاد قليل، والإنسان لا يستقبل يوماً من أيامه إلا بهدم آخر من حياته. يقول الحسن البصري: «ما من يوم ينشقّ فجره إلا وينادي: يا ابن آدم! أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة».
وما أسعدنا عندما نجعل حياتنا كلها لله عز وجل، فلنسجل في صحائفنا ما ندّخره ليومٍ لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
هل تظنُّون؟!
السنوار... رسالة الرمق الأخير
فلْتَكُنِ العربيّة مادّة وازنة!
من شموس المشرقين.. في تاريخ هذا الدين!
فكُن إيجابيًّا