تفسير حديث "إنّ الله زوى لي الأرض.."
حدثنا قتيبة حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان قال: قال رسول الله ﷺ: "إنّ الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي أن لا يُهلكها بِسَنَة عامّة وأن لا يُسلّط عليهم عدوًا مِن سِوى أنفُسهم فيستبيحَ بيضتهم، وإنّ ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يُرد وإني أعطيتك لأمّتك أن لا أهلكَهم بِسَنَة عامّة وأن لا أُسلِّط عليهم عدوًا مِن سِوى أنفسهم فيستبيحَ بيضتهم ولو اجتمع عليهم مَن بِأقطارها -أو قال مَن بين أقطارها- حتى يكون بعضهم يُهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا" قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.
قوله: (عن أبي أسماء) الرحبي، اسمه عمر بن مرثد الدمشقي، ويقال اسمه عبد الله ثقة من الثالثة.
(عن ثوبان) الهاشمي مولى النبي ﷺ، صحبه ولازمه ونزل بعده الشام ومات بحمص.
قوله: (إنّ الله زوى لي الأرض) أي جمعها لأجلي، قال التوربشتي: زَوَيت الشيء جمعته وقبضته، يريد به تقريب البعيد منها، حتى اطلع عليه اطلاعه على القريب منها.
(فرأيت مشارقها ومغاربها) أي جميعها.
(وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُويَ لي منها) قال الخطابي توهم بعض الناس أن "من" في "منها" للتبعيض، وليس ذلك كما توهمه بل هي للتفصيل للجملة المتقدمة، والتفصيل لا يناقض الجملة، ومعناه أن الأرض زويت لي جملتها مرة واحدة فرأيت مشارقها ومغاربها، ثم هي تفتح لأمتي جزءا فجزءا حتى يصل ملك أمتي إلى كل أجزائها، قال القاري: ولعل وجه من قال بالتبعيض هو أن ملك هذه الأمة ما بلغ جميع الأرض فالمراد بالأرض أرض الإسلام، وأن ضمير " منها " راجع إليها على سبيل الاستخدام.
(وأُعطيت الكنزين الأحمر والأبيض) بدلان مما قبلهما أي كنز الذهب والفضة، قال التوربشتي: يريد بالأحمر والأبيض خزائن كسرى وقيصر، وذلك أن الغالب على نقد ممالك كسرى الدنانير، والغالب على نقد ممالك قيصر الدراهم.
(بِسَنَة عامة) أي بقحط شائع لجميع بلاد المسلمين، قال الطيبي: السَنَة: القحط والجدب وهو من الأسماء الغالبة.
(وأن لا يُسلّط عليهم عدوا) وهم الكفار.
وقوله: (مِن سوى أنفسهم) صفة (عدوا) أي كائنا من سوى أنفسهم.
(فيستبيح) أي العدو وهو مما يستوي فيه الجمع والمفرد أي يستأصل (بيضتهم) قال الجزري في النهاية أي مجتمعهم، وموضع سلطانهم، ومستقر دعوتهم، وبيضة الدار وسطها [ص: 333] ومعظمها، أراد عدوا يستأصلهم ويهلكهم جميعهم، قيل أراد إذا أهلك أصل البيضة كان هلاك كل ما فيها من طعم أو فرخ، وإذا لم يهلك أصل البيضة بما سلم بعض فراخها، وقيل أراد بالبيضة الخوذة، فكأنه شبه مكان اجتماعهم والتآمهم ببيضة الحديد، انتهى ما في النهاية.
(إذا قضيت قضاء) أي حَكَمت حُكما مبرمًا (فإنه لا يُرَدّ) أي بشيء لخلاف الحكم المعلق بشرط وجود شيء أو عدمه.
(وإني أعطيتك) أي عهدي وميثاقي (لأمتك) أي لأجل أمة إجابتك (أن لا أهلكهم بِسَنَة عامة) أي: بحيث يعمهم القحط ويهلكهم بالكلية، قال الطيبي: اللام في لأمتك هي التي في قوله سابقا: سألت ربي لأمتي أي أعطيت سؤالك لدعائك لأمتك والكاف هو المفعول الأول، وقوله: أن لا أهلكهم، المفعول الثاني كما هو في قوله: سألت ربي أن لا يهلكها هو المفعول الثاني.
(ولو اجتمع عليهم مَن) أي الذين هم (بأقطارها) أي بأطرافها جمع قطر وهو الجانب والناحية.
والمعنى فلا يستبيح عدو من الكفار بيضتهم ولو اجتمع على محاربتهم من أطراف بيضتهم، وجواب لو ما يدل عليه قوله، وأن لا أسلط (أو قال من بين أقطارها) أو الشك من الراوي.
(ويسبي) كَيَرمي بالرفع عطف على يهلك أي ويأسر (بعضهم) بوضع الظاهر موضع المضمر (بعضا) أي بعضا آخر، قال الطيبي حتى بمعنى كي أي لكي يكون بعض أمتك يهلك بعضا، فقوله "إني إذا قضيت قضاء فلا يرد" توطئة لهذا المعنى، ويدل عليه حديث خباب بن الأرت يعني حديثه المذكور في هذا الباب، قال المظهر: اعلم أن لله تعالى في خلقه قضاءين مبرما ومعلقا بفعل، كما قال إن الشيء الفلاني كان كذا وكذا، وإن لم يفعله فلا يكون كذا وكذا من قبيل ما يتطرق إليه المحو والإثبات كما قال تعالى في محكم كتابه "يمحو الله ما يشاء ويُثبت" وأما القضاء المبرم فهو عبارة عما قدره سبحانه في الأزل من غير أن يعلقه بفعل، فهو في الوقوع نافذ غاية النفاذ، بحيث لا يتغير بحالة ولا يتوقف على المقضى عليه، ولا المقضي له; لأنه من علمه بما كان وما يكون، وخلاف معلومه مستحيل قطعا، وهذا من قبيل ما لا يتطرق إليه المحو والإثبات، قال تعالى: "لا مُعقِّبَ لِـحُكْمِهِ" وقال النبي ﷺ: "لا مرد لقضائه ولا مرد لحكمه"، فقوله ﷺ: إذا قضيت قضاء فلا يرد من القبيل الثاني ولذلك لم يجب إليه، وفيه أن الأنبياء مستجابو الدعوة إلا في مثل هذا.
قوله: (هذا حديث حسن صحيح) وأخرجه مسلم.
المصدر: موقع إسلام ويب | من كتاب تحفة الأحوذي
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن