دروس في ظلال الإسراء والمعراج
هناك الكثير من النتائج التي تستخلص من مقدمات وأحداث رحلتي الإسراء والمعراج وأهمها ما يلي :
الدرس الأول- الفرج آت لكل مسلم مع الصبر الجميل والدعاء الذليل :
لقد رأينا كيف كان الإغواء والإيذاء شديدًا؛ كي يتراجع النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء من ثوابت دعوته، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم إلا التمسك بالحق والإصرار على مواصلة الطريق، وتركهم إلى أرض أخرى؛ لعلها أن تكون أكثر خصبًا وقبولاً للدعوة الإسلامية، فذهب إلى الطائف، فكان قومها أشد بأسًا في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعاملوه لا كإنسان في الضيافة عند العرب، ولا كرسول له الحق أن يبلغ كلمة الله ولهم الحق في قبولها أم لا!! رفضوا السماع، ورفضوا عرض الفكرة بأسلوب سلميّ محض، وسلّطوا عليه الصغار والكبار من اللئام الذين أخرجوه طريدًا ..!
ولا يملك شيئًا إلا إيمانه بربه وعزمه على مواصلة دعوته، لا يتنازل عن جزئية منها، ولم يستطع أن يدخل مكة بلده الأصلي وموطن أهله وعشيرته ومقام زوجته وأولاده فاضطر إلى الدخول في جوار المطعم بن عدي، ثم رفع رأسه إلى السماء ودعا ربه بخير دعاء فقال مبتهلاً متبتلاً خاشعًا متذللاً : "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري؟ إن لم يمكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل عليَّ غضبك أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك ".
فكافأه الله تعالى بما يلي:
1- استجابة عبدٍ يسمى عداس إلى الإسلام بعد رفض الكثير له، وهداية واحد خير من الدنيا وما عليها .
2- ساق الله إليه نفرًا من الجن يستمعون القرآن وأحسنوا الاستماع والإنصات، ثم فهموا واجبهم فولّوا إلى قومه منذرين .
3- استجابة ستة من أهل يثرب هم طلائع الدعوة في المدينة المنورة والتمكين للإسلام في الأرض، ومنهم أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث، ورافع بن مالك، وقطبة بن عامر، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله، هذا بعد أن رفضت كل القبائل الأخرى منهم بنو كلب وبنو حنيفة، وبنو عامر بن صعصعة وفزارة وغسان دمرة وسليم وعيس وبنو نضر وكندة وعذرة والحضارمة .
وهؤلاء كانوا نواة الدعوة التي نشرت الإسلام في يثرب، وتحولت بهم الجماعة الإسلامية المطاردة في مكة إلى دولةٍ ذات عز وتمكين في المدينة المنورة .
4- عدد من أشراف قبائلهم وقومهم منهم سويد بن الصامت الشاعر، وإياس بن معاذ، وأبو ذر الغفاري، والطفيل بن عمرو الدوسي سيِّد قبيلة دوس .
5- الإسراء إلى بيت المقدس والمعراج إلى الملأ الأعلى، فدنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى .
لم يكن الفرج فقط في رحلة الإسراء والمعراج، بل كانت بعض الفرج الربّاني بعد هذا الصبر الجميل، والدعاء الذليل، مكافأة الله تعالى على هذا الخير الجزيل .
وهذا ما يجب أن يوقن به كل مسلم ومسلمة أنّ مع العسر يسرًا، والفرج مع الصبر، والاستجابة مع الدعاء، والظفر مع الثبات على الحق، وأن تعالى وعد ولا مخلف لوعده، حيث قال سبحانه: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) [البقرة: 143].
الدرس الثاني- الرفق بالمدعوِّين نهج المرسلين وأدب الدعاة الربانيين :
نحن في مسيس الحاجة إلى أن نغترف من معين النبوّة الصافي في الرفق بالناس، وعدم الرغبة في الانتقام منهم، وقد صار نهجًا مستمرًّا في هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث روى الطبراني في معجمه الأوسط عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما دخل الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه".
ولعل ما سبق الإسراء والمعراج من غاية الرفق بالمدعوين، رغم صَلفهم وعنادهم وبغيهم يظهره الحديث الذي رواه البخاري بسنده عن عروة بن الزبير أن عائشة حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليكَ يومٌ كان أشدَّ من يوم أحد؟ قال: "لقد لَقِيتُ من قومك ما لقيت، وكان أشدَّ ما لقيتُ منهم يومَ العقبةِ إِذ عرَضتُ نفسي على ابنِ عبد ياليل بن عبد كُلال، فلم يُجِبني إلى ما أردت، فانطلقتُ وأنا مَهمومٌ على وَجهِي، فلم أستَفق إلا وأنا بقرنِ الثَّعالب، فَرَفَعتُ رأسي، فإذا أنا بَسحابةٍ قد أظلَّتْني، فنظرتُ فإذا فيها جِبريل، فناداني فقال: إِن الله قد سمعَ قولَ قومكَ لك وما رَدوا عليك، وقد بعث اللهُ إِليكَ مَلَكَ الجبالِ لتأمرَهُ بما شِئتَ فيهم. فناداني ملكُ الجبال، فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد. فقال: ذلكَ فيما شئتَ، إن شِئتَ أن أطبِقَ عليهم الأخْشَبَينِ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يُخرجَ الله من أصلابهم من يَعبُدُ اللهَ وحدَهُ لا يُشركُ بهِ شيئًا".
هكذا كان الحبيب صلى الله عليه وسلم! بكلمة واحدة إلى ملك الجبال يستطيع أن يدمر كل شيء في مكة، ولا يُبقي فيها واحدًا من المشركين، دون أن يكلّفه شيئًا إلا كلمة واحدة. لكنه أبى؛ لأنه رحمة للعالمين، لأنه ذا قلب ينبض بالحب لكل الناس أن يهتدوا، أو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله من الأطفال.
وهكذا الدعاة يحبون للناس الخير، لا يدفعون السيئة بالسيئة بل يدفعونها بالحسنة وبالتي هي أحسن، يقابلون الشر بالخير، والقطيعة بالوصل، والقتل والاضطهاد بالحب والإرشاد.
ولذا كافأه الله بأعظم رحلة في الوجود إلى المسجد الأقصى الشريف وإلى السموات العُلا، وقربه إليه ربه وهدى الله به خلقًا كثيرًا، وحقق أمله، فكان من أولاد المشركين خيرة الدعاة والمصلحين منهم:
1- خالد بن الوليد ابن الوليد بن المغيرة الذي نزلت فيه آيات سورة المدثر.
2- عكرمة بن أبي جهل ابن عمرو بن هشام كبير المشركين.
3- أم حبيبة بنت أبي سفيان زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبوها آنئذٍ كافرًا.
4- عبد الله بن عباس وقد أسلم مع أمِّه أم الفضل قبل العباس بن عبد المطلب حين كان كافرًا.
وهكذا يكون الصبر مع الرفق والرحمة مع الشفقة بالمدعوين سببًا في هدايتهم، أو هداية أولادهم، ويفوز الدعاة بالقربى إلى الله، ورفع الدرجات والفوز بالجنات إن شاء الله تعالى.
الدرس الثالث- أمّة الإسلام هي صاحبة الميراث لرسالة الرسل والأقصى الشريف:
لقد كانت محطة الإسراء النهائية إلى بيت المقدس، وأول المعراج من بيت المقدس، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء جميعًا إمامًا؛ كي يؤسس على هذا التوافق بين "الأديان السماوية"، وتبعية الرسالات السماوية لرسالة واحدة هي رسالة الإسلام، وبخاصة ما جاء به سيدنا عيسى وموسى وغيرهم عليهم الصلاة والسلام. وصار المسجد الأقصى بهذا أولى القبلتين، وميراث المسلمين، وظل سيدنا عمر رضي الله عنه حافظًا لدرس الإسراء والمعراج، وللعهد بالصلاة ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، كما جاء في حديث البخاري بسنده عن البراء بن عازب، حتى أرسل خالد بن الوليد وأبا عبيدة بن الجراح وفتحت فلسطين والشام، وذهب بنفسه لاستلام مفاتيح القدس، ولم يذهب إلى بلد خارج الجزيرة غيرها، وأعطى من صورالسماحة مع الأديان الأخرى ما بقي موضع ذكر من كل منصف..
وعاش غير المسلمين في ظل حكم الإسلام يمارسون شعائرهم، وتحترم دور عبادتهم، ويشاركون المسلمين في إدارة البلاد، دون أية حساسية حتى جاء الصليبيون يحملون حقدًا وغلاًّ، وتحركهم أهواء سياسية وشائعات كاذبة أن المسلمين هدموا قبر المسيح، وهي أكذوبة روَّجها البابا أوربان الثاني والسّاسة والقساوسة؛ لتحريك الجموع العمياء عن الحقيقة، وقتلوا وسفكوا وهتكوا وخاضوا في الدماء، وأمعنوا في الخراب بحقدٍ لا مثيل له، لكن صلاح الدين لما واجههم لظلمهم، وقاومهم لفسادهم، وقاتلهم لبغيهم قابلهم بسماحة الإسلام في التعامل مع الأسرى.
وندع الأستاذة زيجريد هونكه المؤرخة الألمانية تروي في كتابها (الله ليس كذلك) ص25 على لسان أحد الألمان الذين شاركوا في الحروب الصليبية وهو "أوليفروس" حيث كتب عن معاملة صلاح الدين لهم فقال: "منذ تقادم العهود، لم يسمع المرء بمثل هذا الترفق والجود، خاصة إزاء أسرى العدو اللدود، ولما شاء الله أن نكون أسراك، لم نعرفك مستبدًّا طاغية، ولا سيدًا داهية، وإنما عرفناك أبًا رحيمًا شمل
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة