الحكم بغير ما أنزل الله
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد: تتوالى الأخبار بأن طوائف من المثقفين والأدباء والصحفيين والاعلاميين والقانونيين يحاربون النص على الحكم بشريعة الاسلام والاحتكام اليها في الدستور الذي يكتب حالياً في البلدين (تونس ومصر)، ويقيمون العقبات في وجه من يطالب بذلك، ويرفضون ذلك صراحة ويعلنون رفضهم بقوة، ويطالبون بحكم مدني لا علاقة له بالشريعة، فليعلم هؤلاء أن هذا الصنيع يخرجهم من ملة الاسلام عند
كل الفقهاء في كل العصور، ولو صلّوا وصاموا وزعموا أنهم مسلمون، لا خلاف بين الفقهاء على هذا، فليتق الله أولئك، وليعلموا أنهم غدا بين يدي الله موقوفون، ولن تنفعهم شقشقاتهم الاعلامية، ولا صيحاتهم القنواتية، ولا استفزازاتهم الصحفية، ولا مقاطعهم الادبية، يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم، وليحذر الناس في مصر وتونس من الميل الى اولئك، أو الرضى بصنيعهم، أو موافقتهم على تقريراتهم الكفرية، وأفكارهم المخالفة كل المخالفة لما علم بالضرورة من دين الاسلام، لما في ذلك من الخطر الشديد على عقائد الناس، والله المستعان على مايصفون ويقررون، والله أكبر والعزة للمسلمين، والاسلام قادم ان شاء الله.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:
"من حكم بغير ما أنزل وهو يعلم أنه يجب عليه الحكم بما أنزل الله، وأنه خالف الشرع ولكن استباح هذا الأمر ورأى أنه لا حرج عليه في ذلك، وأنه يجوز له أن يحكم بغير شريعة الله فهو كافر كفرا أكبر عند جميع العلماء، كالحكم بالقوانين الوضعية التي وضعها الرجال من النصارى أو اليهود أو غيرهم ممن زعم أنه يجوز الحكم بها، أو زعم أنها أفضل من حكم الله، أو زعم أنها تساوي حكم الله، وأن الإنسان مخير إن شاء حكم بالقرآن والسنة وإن شاء حكم بالقوانين الوضعية. من اعتقد هذا كفر بإجماع العلماء كما تقدم.
أما من حكم بغير ما أنزل الله لهوى أو لحظ عاجل وهو يعلم أنه عاص لله ولرسوله، وأنه فعل منكرا عظيما، وأن الواجب عليه الحكم بشرع الله فإنه لا يكفر بذلك الكفر الأكبر لكنه قد أتى منكرا عظيما ومعصية كبيرة وكفرا أصغر كما قال ذلك ابن عباس ومجاهد وغيرهما من أهل العلم، وقد ارتكب بذلك كفرا دون كفر وظلما دون ظلم، وفسقا دون فسق، وليس هو الكفر الأكبر، وهذا قول أهل السنة والجماعة، وقد قال الله سبحانه: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، وقال عز وجل: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ وقال عز وجل: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾.
فحكم الله هو أحسن الأحكام، وهو الواجب الاتباع وبه صلاح الأمة وسعادتها في العاجل والآجل وصلاح العالم كله ولكن أكثر الخلق في غفلة عن هذا. والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى معلقا على ماوضعه التتار من شريعة لما حكموا بلاد الاسلام وسموها الياسق: (فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين)
قال الشيخ أحمد شاكر المصري رحمه الله تعالى معلقاً على كلام الحافظ ابن كثير عند تفسيره لقوله تعالى {أفحكم الجاهلية يبغون}:
«أقول: أَفَيَجُوز في شرع الله تعالى أن يُحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس عن تشريعات أوروبا الوثنية الملحدة؟ بل بتشريع تدخله الأهواء والآراء الباطلة، يغيّرونه ويبدلونه كما يشاؤون، لا يبالي واضعه أَوَافق شِرعة الإسلام أم خالفها؟ إن المسلمين لم يُبلوا بهذا قط - فيما نعلم من تاريخهم- إلاّ في ذلك العهد عهد التتار، وكان من أسوأ عهود الظلم والظلام، ومع هذا فإنهم لم يخضعوا له، بل غلب الإسلام التتار، ثم مزجهم فأدخلهم في شِرعته، وزال أثر ما صنعوا بثبات المسلمين على دينهم وشريعتهم، وبما أن الحكم السيئ الجائر كان مصدره الفريق الحاكم إذ ذاك، لم يندمج فيه أحد من أفراد الأمم الإسلامية المحكومة، ولم يتعلّموه ولم يعلّموه أبناءهم، فما أسرع ما زال أثره.
أفرأيتم هذا الوصف القوي من الحافظ ابن كثير -في القرن الثامن- [الهجري] لذاك القانون الوضعي، الذي صنعه عدو الإسلام جنكيز خان؟
ألستم ترونه يصف حال المسلمين في هذا العصر، في القرن الرابع عشر الهجري؟ إلاّ في فرق واحد أشرنا إليه آنفاً: أن ذلك كان في طبقة خاصة من الحكام أتى عليها الزمن سريعاً فاندمجت في الأمة الإسلامية وزال أثر ما صنعت، ثم كان المسلمون الآن أسوأ حالاً، وأشد ظلماً وظلاماً منهم، لأن أكثر الأمم الإسلامية الآن تكاد تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة، والتي هي أشبه شيء بذاك”الياسق" الذي اصطنعه رجلٌ كافرٌ ظاهرُ الكفر، هذه القوانين التي يصطنعها ناس ينتسبون للإسلام، ثم يتعلّمها أبناء المسلمين ويفخرون بذلك آباءً وأبناء، ثم يجعلون مردّ أمرهم إلى معتنقي هذا”الياسق العصري" ويُحَقِّرون من يخالفهم في ذلك، ويسمون من يدعوهم إلى الاستمساك بدينهم وشريعتهم "رجعياً" و"جامداً" إلى مثل ذلك من الألفاظ البذيئة، بل إنهم أدخلوا أيديهم فيما بقي في الحكم من التشريع الإسلامي، يريدون تحويله إلى "ياسقهم" الجديد بالهوينا واللين تارة، وبالمكر والخديعة تارة، وبما ملكت أيديهم من السلطات تارات، ويصرّحون ولا يستحيون بأنهم يعملون على فصل الدولة من الدين!
أفيجوز إذن -مع هذا- لأحد من المسلمين أن يعتنق هذا الدين الجديد، أعني التشريع الجديد؟ أَوَ يَجوز لرجل مسلم أن يليَ القضاء في ظل هذا ”الياسق العصري" وأن يعمل به ويُعرِض عن شريعته البيّنة؟ ما أظنّ أن رجلاً مسلماً يعرف دينه ويُؤمن به جملة وتفصيلا ويؤمن بأن هذا القرآن أنزله الله تعالى على رسوله صلي الله عليه وسلم كتاباً مُحكماً لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وبأن طاعته وطاعة الرسول صلي الله عليه وسلم الذي جاء به واجبة قطعية الوجوب في كل حال، ما أظنه يستطيع إلاّ أن يجزم غير متردد ولا متأول، بأن ولاية القضاء في هذه الحال باطلة بطلاناً أصلياً، لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة، إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كُفرٌ بواح، لا خفاء فيه ولا مداورة، ولا عُذر لأحد ممن ينتسب للإسلام -كائناً من كان- في العمل بها، أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤٌ لنفسه، وكل امرئٍ حسيبُ نفسه».
وقال ايضا رحمه الله تعالى:
اللهم إني ابرأ إليك من الضلالة وبعد: فإن أهل الريب والفتن ممن تصدّروا الكلام في زماننا هذا قد تلمس المعذرة لأهل السلطان في ترك الحكم بما أنزل الله تعالى وفي القضاء في الأموال والأعراض والدماء بغير شريعة الله تعالى التي أنزلها في كتابه وفي اتخاذهم قانون أهل الكفر شريعة في بلاد الإسلام... فهذا الفعل إعراض عن حكم الله تعالى ورغبة عن دينه، وإيثارٌ لأحكام أهل الكفر على حكمه سبحانه وتعالى، فهذا كفرٌ لا يشكُّ فيه أحد من أهل القبلة -على اختلافهم- في تكفير القائل به والداعي إليه، والذي نحن فيه اليوم هو هجر لأحكام الله تعالى عامّة بلا استثناء، وإيثارُ أحكامٍ غيرُ حكمه في كتابه وسنة نبيه صلي الله عليه وسلم وتعطيلٌ لكل ما في شريعة الله تعالى، بل بلغ مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله تعالى المنزلة.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر" أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) فدل ذلك على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنّة ولا يرجع إليهما فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر(تفسير ابن كثير: 1/519).
والعلمانيون والليبراليون المناوئون للشريعة والحكم بها لايكتفون فقط بعدم التحاكم الى الكتاب والسنة بل يرفضون ذلك ويحاربون من يدعو الى الشريعة وتحكيمها والعمل بها، فهل يبقى شك بعد ذلك في كفر هذا الصنيع وكفر من قام به إذا كان عالما بالحكم الشرعي في ردة من يصنع هذا ورضي بعد هذا واختار محاربة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم, والله المستعان.
قال الامام الجصاص الحنفي رحمه الله في قوله تعالى: "فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما" (النساء:65). في هذه الآية دلالة على أن من يرد شيئاً من أوامر الله أو أوامر رسوله أنه خارج عن دائرة الإسلام سواء رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والامتناع عن التسليم.
فماذا يقول علمانيّو وليبراليّو هذا الزمان الذين يرفضون رفضا قاطعا الحكم بما أنزل الله تعالى وجل وعز ويحاربون من يريد التنصيص على مصدرية الشريعة في الدستور ويحاربون من يريد الحكم بما أنزل الله تعالى وجل وعز في كل جوانب الحياة فإنا لله وإنا إليه راجعون، ثم إنا لله وإنا إاليه راجعون.
قال ا بن القيم في أعلام الموقِّعين (1/85):
ثم أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد حكّم الطاغوت وتحاكم إليه، والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حدَّه من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة له”. فهذا بيان واف شاف كاف، صالح للرد على العلمانيين والليبرالين الذين يملأون مصر وتونس صياحا ضد التنصيص على مصدرية الشريعة في الدستور، ويستهزئون بالدعاة إليها، ويتباكون على مصير مصر وتونس إذا حكمت الشريعة فيهما، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي المملكة الأسبق وقد توفي سنة 1389 -1969 رحمه الله تعالى وكان من كبار علماء العالم الاسلامي وثقاته، قال معلقا على الاية الكريمة "أفحكم الجاهلية يبغون" وذاما أهل القوانين الوضعية:
فتأمل هذه الآية الكريمة وكيف دلَّت على أن قسمة الحكم ثنائية وأنه ليس بعد حكم الله تعالى إلا حكم الجاهلية الموضح أن القانونيين في زمرة أهل الجاهلية شاءوا أم أبوا بل هم أسوأ منهم حالاً وأكذب منهم مقالاً، ذلك أن أهل الجاهلية لا تناقض لديهم حول هذا الصدد وأما القانونيين فمتناقضون حيث يزعمون الإيمان بما جاء به الرسول ويناقضون ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا وقد قال تعالى في أمثال هؤلاء {أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً} - رسالة تحكيم القوانين ص: 11- 12.
قال الأستاذ المصري الشهيد بإذن الله تعالى عبد القادر عودة رحمه الله الذي قتله ظلما وعدوانا وغدرا الطاغية الهالك عبد الناصر: "ولا خلاف بينهم _ أي الأئمة المجتهدين _ قولاً واعتقاداً في أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأن إباحة المجمع على تحريمه كالزنا والسكر، واستباحة إبطال الحدود، وتعطيل أحكام الإسلام، وشرع ما لم يأذن به الله إنما هو كفر وردة، وأن الخروج على الحاكم المسلم إذا ارتد واجب على المسلمين. ( الإسلام وأوضاعنا القانونية ص:60)
وما يجري اليوم في أكثر البلاد الإسلامية يصوره بدقة كلام الأستاذ رحمه الله تعالى وعوض المسلمين عنه خيرا فقد كان عقلية تشريعية فذة، رحمه الله
المصدر: موقع التاريخ
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن