شيخ الإسلام مصطفى صَبري
كتب بواسطة إعداد هيثم نابلسي
التاريخ:
فى : تراجم وسِيَر
1662 مشاهدة
شيخ الإسلام مصطفى صَبري
العالم العالمي والمفكر الإسلامي وشيخ الإسلام في الدولة العثمانية
(1869 – 1954)
إذا مررت يوماً في شارع الملك (أشرف إينال) بشارع الأتابكي (أوزبك) بقَرافة الخضير وقرأت على شاهد أحد القبور:
أيها الزائر هــذا المثــوى
لبطلٍ عظيمٍ مضرَّجٍ بدمــائه
عِلْمُـه الغزيـر إلهـامٌ من اللهِ
فاعلم أنَّك أمام ضريح العَالِم العَالميّ والمُفكِّر الإسلاميّ "الشيخ مصطفى صبري التوقادي" -نسبةً لبلدته توقاد- ابن أحمد بن محمد القازابادي، من أب وأم أناضوليين ذوي نسبٍ عريق في الترك.
مولده ونشأته:
ولد في مدينة (توقاد، أو توقات كما تلفظ الآن) من توابع ولاية سيواس في الأناضول، وذلك في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول، من عام (1286هـ الموافق للحادي والعشرين من حزيران (يونيو) من عام (1869م). فكان ينشد مفتخراً يقول:
أكرمْ به مولداً واسماً يشرِّفني بمصطفى الله في الأمرين تسويتي
فلي المزيدُ على ما قال قائلُه فـإنَّ لي ذمَّــةً منه بتسميتي
نشأ في بيت علمٍ وفضلٍ، وتَربَّى على تعاليم القرآن الكريم، حيث حفظه عن ظهر قلب وجوَّده ولم يتجاوز العاشرة من عمره، وكان والده رجلاً متديناً تقياً صالحاً، وكانت أعظمَ أمانيه أن يجتهد ابنه في طلب العلم ويصبح عالماً من علماء الدين، وكان في رغبته هذه أشدّ شرهاً من المَنهومين، كما كان محباًَ للعلم والعلماء ولذا كان دائماً يجمع علماء بلدته في بيته ويكرِّمهم ويسلِّطهم على ابنه مصطفى لكي يسألوه ويناقشوه فيما تعلمه في الابتدائية من العلوم الإسلامية.
أسرته:
بعدما تزوَّج الشيخ مصطفى أنجب ثلاثة أولادٍ؛ ابناً وابنتين:
1. إبراهيم: وهو أكبر أولاده وقد تأثر به كثيراً، وشاركه في جهاده ومحنته وتنقلاته، واشتهر شاعراً وأديباً كبيراً، وعمل أستاذاً في جامعات ليبيا والإسكندرية، توفي في لندن في 28 تموز (1983م).
2. صَبِيحة: ابنته الكبرى توفيت في القاهرة.
3. نزاهت: وهي الصغرى، توفيت في مدينة إستانبول في صيف عام (1986م).
تعلمه:
بدت على الشيخ منذ صغر سنّه مخايل النبوغ والذكاء، فحفظ القرآن ولم يتجاوز العاشرة من عمره، ودرس العلوم الإسلامية -علوم القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وعلم القراءات، وعلم العقيدة، والتفسير، والفقه، وأصول الفقه، وغيرها- دراسة مستفيضة على أيدي كبار العلماء والفقهاء.
درس الابتدائية في مسقط رأسه (توقاد)، وحفظ القرآن الكريم، ولما أتم دراسته على أيدي كبار أهل الفضل ببلدته أمثال الشيخ أحمد أفندي زُولْبيه زاده سافر لأول مرة إلى مدينة (قيصرية)، وأخذ يَنهل من مناهل العلم، حيث أصَّل دراسته الشرعية على يد الشيخ محمد أمين اللُّوريكي.
ثم انتقل إلى الآستانة، حيث أتمَّ دراسته المترتبة لعلوم الشريعة لدى الأستاذ العالم الفقيه الشيخ أحمد عاصم الكومِلْجَنويوكيل الدرس في المشيخة الإسلامية.
ولقد فاق أقرانه في الآستانة، وبَزَّهم بعلمه وسعة أفقه، وشدَّ انتباه مشايخه بحدة ذكائه، وقوة حافظته، وعُمق تحصيله، خصوصاً شيخه أحمد عاصم الكومِلْجَنوي الذي زوّجه ابنته -بعد ما أجازه- من شدِّة إعجابه به.
نشاطه العلمي:
كان الشيخ مصطفى محباًَ للعلم والعلماء، شغوفاً بمدارسة العلوم الإسلامية وتدريسها لطلاب العلم، وكانت له جهودٌ كبيرةٌ ونشاطٌ متعدد في كثير من المجالات العلمية في الدولة العثمانية، وهي ما يلي:
أولاً: عمله في حقل التدريس والتعليم:
بعد نجاحه في امتحان التخرج المسمى (رؤوس) للأستاذية، ونيله شهادة العالمية بدرجة (المتفوق جداً)، شرع في التدريس بدرجة مدرس عام في جامع السلطان محمد الفاتح فصارت له حلقة علمٍ وطلاب يدرسون عليه، وهو لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره بعد، واستمر فيه لسنوات طويلة.
في العام 1896م مُنِح إمامة جامع (الآثارية) في بشكطاش مع التدريس به، ثم عُيِّن مدرساً للتفسير في مدرسة (الواعظين)، وانتخب من قِبَل مجلس المدرسين في كلية الإلهيات بجامعة الآستانة (دار الفنون) مدرساً للتفسير أيضاً.
وبعد ذلك نُقِل إلى التدريس في مدرسة (المتخصصين)، حيث درَّس فيها (صحيح الإمام مسلم) رحمه الله، وفي الخامس والعشرين من شهر ديسمبر سنة 1918م عُيِّن مدرساً للحديث الشريف في المدرسة (السليمانية).
ثانياً: اشتراكه في (دروس الحضور):
في عام 1898م اختير ليكون عضواً من الأعضاء المخاطبين في دروس الحضور، التي كانت تلقى في حضرة السلطان عبد الحميد، وكان الشيخ أصغر الأعضاء سناً في ذلك الوقت، وقد لفت انتباه السلطان بحدة ذكائه، وقوة إدراكه، ومجاراته العلماء الكبار، وبمقدرته العلمية، فنال تقديره وإعجابه، وعيَّنه قيِّماً عاماً لمكتبته الخاصة الضخمة الغنيَّة بالكتب والمخطوطات الكثيرة، ونال وساماً علمياً عثمانياً ومجيدياً من الدرجة الرابعة.
في السادس من كانون الثاني عام 1900م انضم إلى سلك كُتّاب السلطان، وتولى العمل (مديراً للقلم الخاص) للسلطان عبد الحميد، ونال خلال هذه الفترة ميدالية اللياقة الذهبية، ومُنِح أيضاً وساماً عثمانياً من الدرجة الرابعة، واستمرَّ في عمله هذا بالإضافة إلى اشتراكه في دروس الحضور، حتى عام 1913م.
في عام 1905م انضم عضواً إلى لجنة تدقيق المؤلفات الشرعية.
ثالثاً: اشتراكه في الجمعية العلمية الإسلامية:
في 12 من شهر آب عام 1908م اجتمع علماء الآستانة لتأسيس جمعية لهم باسم (الجمعية العلمية الإسلامية) وكان عددهم مئة وثلاثة عشر عالماً، وفي الانتخاب لمجلس الإدارة نال الشيخ مصطفى مئة واثني عشر صوتاً ، ولم ينلْ أحدٌ غيره مثل هذا الإجماع.
وأصدرت هذه الجمعية مجلةً علميةً إسلاميةً باللغة التركية، ناطقةً باسمها، هي مجلة (بيان الحق) التي كانت موضع الحرمة باعتدالها وتحقيقها، والتي ترأس الشيخ تحريرها سنين طويلة.
رابعاً: عضويته في دار الحكمة الإسلامية:
تم تعيينه عضواً في دار الحكمة الإسلامية بتاريخ 17 تشرين الثاني 1918م، التي تأسست في 12 آب 1918م، بناء على قرار الشيخ إبراهيم الحيدري شيخ الإسلام في ذلك الوقت، الذي قدَّمه إلى السلطان محمد وحيد الدين وهو الذي احتوى توجيهاً علمياً ممهوراً بإمضائه.
خامساً: توليه مشيخة الإسلام:
تأكيداً لمستواه وقيمته العلمية تولَّى الشيخ مصطفى صبري منصب (شيخ الإسلام) أربع مراتٍ متتالية، وإن كانت لفترات قصيرة بلغت في مجموعها ثمانية أشهر وواحداً وعشرين يوماً.
كان أولاها عندما وصل حزب (الحرية والائتلاف) إلى السلطة وتسلَّم دفة الحكم، وعندما تكونت الحكومة الجديدة برئاسة الداماد فريد باشا الأولى في 4 آذار 1919م، ولما سقطت الوزارة استقال من منصبه.
ولما كوَّن الداماد فريد باشا وزارته الخامسة عُيِّن الشيخ فيها شيخاً للإسلام للمرة الرابعة ثم استقال من منصبه في 25 أيلول 1920م وذلك لما سارت الحكومة في سياستها الداخلية في اتجاه لم يوافق عليه.
حاول الشيخ مصطفى أن يستفيد من منصبه -الذي يعد مركزاً سياسياً قوياً بالإضافة لكونه مركزاً علمياً كبيراً ومؤثراً- في الدفاع عن الإسلام ونظمه وأحكامه وجعله قانون الدولة، وفي تنبيه المسلمين بالكشف عن خُطط القوى والمنظمات المعادية للإسلام وحيَلها وإطلاعهم على خُبْثِ نواياهم منذ وقت مبكر.
كما أسهم في توجيه سياسة الدولة، وفي المناداة بتحكيم الشريعة الإسلامية، وإحلال كلام الله محل الحكم في المجتمع، وهذا هو مبدأه الإسلامي الذي لم يحد عنه طَوال حياته.
نشاطه السياسي:
لقد كان مصطفى صبري مهتماً بالسياسة حتى إنّه قضى ثلث قرن من عمره في حياة الكفاح والنضال السياسي، تَقَلَّد فيه عِدَّة مناصب سياسية، أخذ على عاتقه فيها الدفاع عن دين الأمة وأخلاقها وآدابها وسائر شؤونها، وقد عانى خلال هذه الفترة ألوان الشدائد والمصائب من مطاردةٍ واعتقالٍ واعتداءٍ واغتراب عن الأهل والمال والوطن في سبيل عدم مغادرة المبادئ.
لذا كان يدعو علماء الدين إلى الاشتغال بالسياسة؛ وذلك لكي يُسْهِموا في توجيه أصحاب السلطة إلى الحكم بمقتضى الشرع الإسلامي، إذ ينكر عليهم اعتزالهم السياسة، ويبيِّن الأضرار الناتجة عن ذلك الاعتزال.
ومن هذا يتضح لنا أنّه لم يكن للسياسة عنده إلا معنًى واحد، وهو جَعل الشريعة الإسلامية أساساً لإدارة الدولة، وجَعل السياسة آلةً للدين، مستخدمةً في تعزيزه وتنفيذه، لكونها أقوى الآلات الممثلة لقوة الحكومات.
أما أبرز أعماله السياسية في الدولة العثمانية فكانت:
أولاً: عضويته في مجلس النواب العثماني:
بعد إعلان الدستور الثاني عام 1908م انتخبه آنذاك أهالي بلدته (توقاد) لينوب عنهم في المجلس النيابي في البرلمان العثماني ويُسمى (مجلس المبعوثان)، كافح فيه سياسة الظلم والهدم والفسوق وتنبّه إلى مكايد السياسيين المنحرفين والحاقدين على الدين، فكشف النقاب لأول مرة عن المؤامرة الصهيونية التي دُبِّرت للقضاء على كيان الدولة العثمانية، ونفَّذت قبل أكثر من نصف قرن بأيدي الاتحاديين وحكومة حزبهم (الاتحاد والترقي)، كما كشف عن العلاقة بينهم وبين جمعية البنَّائين الأحرار الماسونية.
ثانياً: مشاركته في تأسيس حزب الحرية والائتلاف:
انضم إلى المناوئين لمنهج الاتحاديين، سيما انتهاجهم المركزية في الحكم، كما اشترك في تأسيس حزب جديد مع هؤلاء المناوئين والساخطين، ليقفوا في مواجهة حزب الاتحاد والترقي، وأطلقوا عليه اسم حزب الحرية والائتلاف، وقد احتل الشيخ موقعاً مبرزاً في هذا الحزب، حيث اختير نائباً للرئيس، كما كان لسان الحزب الناطق، واكتسب شهرةً واسعةً لترؤسه المعارضين لحزب الاتحاديين، كما أخذ على عاتقه الدعاية لحزبه (الحرية والائتلاف) ونشر مبادئه وأفكاره، فأخذ يكتب في الصحف والمجلات، كما أخذ يتنقل في البلاد لإلقاء الخطب القوية المؤثِّرة، وذلك لكسب ثقة الشعب بحزبه، ثم كسب أصواتهم إلى صفوف ذلك الحزب، والفوز في الانتخابات على حزب الاتحاد والترقي.
وهذا ما حصل فعلاً سنة 1912م قُبيل حرب البلقان حيث أسس حزب الحرية حكومة بدأت تُعِد العدة للمحافظة على الخلافة؛ بتطبيق اللامركزية وإعطاء غير الأتراك نوعاً من الحكم الذاتي لإجهاض سعيهم إلى الانفصال الذي يحرضهم الأعداء عليه. لكن عندما أسقط الاتحاديون حكومة حزب الحرية وعاد زمام الحكم إلى الاتحاديين، أبطلوا الخطوات التي خطاها حزب الحرية والائتلاف، ثم عطلوا المجلس النيابي، وقبضوا على المعارضين لهم، إلا أن الشيخ مصطفى استطاع أن ينجو منهم بنفسه، حيث التجأ إلى مصر عام 1913م، وهناك عارض قرار زملائه العرب في المجلس وفي الحزب الذين عقدوا مؤتمراً لهم في القاهرة لإعلان فصل الدول العربية عن الدولة العثمانية، ودعاهم إلى توحيد الصف مع إخوانهم الأتراك لإسقاط حكومة الاتحاد والترقي بدلاً من هدم الدولة.
في 14 كانون الآخر 1919م أعيد تأسيس الحزب مرةً أخرى وظهر على الساحة السياسية في الدولة العثمانية وألَّف عدة وزارات برئاسة الداماد فريد باشا، كان مصطفى صبري عضواً فيها بصفته شيخاً للإسلام في الدولة العثمانية.
ثالثا: عضويته في مجلس الأعيان العثماني:
صدرت "إرادة" الخليفة محمد وحيد الدين في شهر تشرين الأول سنة 1919م بتعيين الشيخ عضواً مدى الحياة في مجلس الأعيان العثماني، وذلك بعد إقالة وزارة الداماد فريد باشا الثالثة.
وكانت تُفتتح جلسات هذا المجلس -وكذلك مجلس المبعوثان- وتُختتم بتلاوة آيات من القرآن الكريم، وذلك بناءً على اقتراح من الشيخ مصطفى صبري.
رابعاً: توليه منصب الصدارة العظمى بالنيابة:
في 5 حزيران سنة 1919م لما تولى مشيخة الإسلام الثانيةأصدر الداماد فريد باشا -بسبب سفره إلى أوروبة لحضوره مؤتمر الصلح المنعقد في باريس- أمره بتولية الشيخ مصطفى الصدارة العظمى نيابةً عنه مدة غيابه، فكان يرأس مجلس الوزراء وكان يَختم اجتماعات هذا المجلس بقراءته حزباً من القرآن الكريم.
خامساً: توليه رئاسة مجلس شورى الدولة:
أثناء توليه مشيخة الإسلام الرابعة وفي 31 تموز 1920م اختير ليكون رئيساً لمجلس شورى الدولة.
سادساً: مقاومته الاتحاديين والكماليين:
نهض مشمراً عن ساعد الجد، يعمل ويجاهد لإنقاذ الدولة مما كان ينتظرها، ويقاوم ويناضل بقلمه ولسانه عن الإسلام وعن مفهومه وأحكامه في الحكم والحياة، ويبذل جهوداً جبارة لإيقاظ الأمة الإسلامية من غفلتها وتنبيهها إلى ما يحاك حولها من مؤامرات، ويحصر كلّ عزمه وإرادته لمقاومة القوى المعادية للإسلام مقاومة عملية أو فكرية نظرية، ويضحِّي بكل شيء في سبيل التصريح بكلمة الحق، لذا فقد اضطهد واعتقل وشُرِّد هو وأهله، ولاقى الأمرَّين من حكام تركيا الجدد اللادينيين.
أ - مقاومته الاتحاديين:
انتقد الشيخ استبداد الاتحاديين في حكمهم البلاد، ونادى بإحياء مبدأ الشورى الإسلامي، كما انتقد إصرارهم على اتِّباع المركزية في الحكم، وعارض سياستهم الرامية إلى إحياء النعرات القومية، والدعوة إلى الجامعة الطورانية، وانتقد فكرة القومية، وبيَّن مضارّها، والنتائج السيئة المترتبة عليها، وتصدى لدعاة الوقيعة بين العرب والترك، وكان في كلِّ ذلك متمسكاً بهدي الإسلام، وبالإيمان بمبادئ الدعوة إلى "الجامعة الإسلامية"، يؤيِّد من يؤيِّدها ويعارض من يعارضها، سواء في داخل تركية أم في خارجها.
كما عارض الاتحاديين في مجلس النواب على قيامهم بتغيير القوانيين والتلاعب بها، وعلى قيامهم بتعيين نواب في المجلس النيابي العثماني عن بلادٍ لا يعرفهم أهلُها، ولا يرتضُونهم نواباً عنها، وكان يرى أنَّ رأس الخطيئة أن تَعُدَّ الحكومة نفسها حرة في سَن أي قانون شاءت، وكان يدعو إلى إيجاد قوانين أساسية لا يتخطَّاها منظِّمو القوانين، ولا يسوغ لهم تبديلها، وتلك القوانين الأساسية أكملها ما كان سماوياً، لأنه ثابت لا يتغير.
وتصدَّى لحملاتهم التي كانوا يشنُّونها على الدين، ومن ذلك قولهم إن تعاليم القرآن لا يمكن تطبيقها، وإن دولة تركيا ليست إسلامية، وتأسفهم على تسمية الأتراك أولادهم بأسماء عربية، ودعوة الأتراك إلى التعصب لطورانيتهم وإحياء عقائد أسلافهم الوثنية كوثن الذئب الأغبر الذي صوروه على طوابع البريد ووضعوا له الأغاني وألزموا الجيش أن يصطف لإنشادها عند غروب كل شمس. والعداوة للإسلام ومهاجمته واعتباره ديناً عربياً، وقيامهم بنقل رابطة المحاكم الشرعية من المشيخة الإسلامية إلى وزارة العدلية التي كانت صولة سرية على الدين، كما ينقم الشيخ على الاتحاديين بسبب السنَّة السيئة التي سنّوها في الدولة وهي إدخالهم الجيش وإقحامه في السياسة، وتحكُّمه في مصير الدولة، ويرى أن هذا التصرف ذو خطرٍ كبيرٍ، لذا أطلق عليه "الطامة الكبرى والبليَّة التي لا يُقاس عليها بليَّة".
لذا لم يدعْه الاتحاديون ينعم بالأمن والراحة، فما إنْ حلُّوا البرلمان حتى سعَوا للقبض عليه، ولكنه استطاع أن يفرَّ منهم. أثناء الحرب العالمية الأولى، وحين احتلت الجيوش الألمانية والتركية (بوخارست) قبض عليه الاتحاديون، وأدخلوه السجن، وبعد أن مكث فيه ستة أشهر أُحضر من رومانية إلى الآستانة، ثم نُفي إلى مدينة (بيلَّه جِك) في الأناضول حيث أقام فيها إقامةً جبريةً بقرار من حكومة الاتحاد والترقي أثناء الحرب العالمية الأولى، ولما أُلغي قرار الإقامة بانتهاء الحرب عاد إلى العاصمة الآستانة.
ب - مقاومته الكماليين:
ويذهب الشيخ في مقاومته للكماليين ومخاصمهم إلى عدم التغاير بينهم وبين الاتحاديين، وأنَّ الثورة الكمالية مُرتَّبة ومدبَّرة لإحياء مبادئ الاتحاديين، بل لإحياء أشخاصهم. فالاتحاديون كانوا ظالمين وسفَّاكين للدماء المحقونة، والكماليون أظلم وأسفك، والاتحاديون مستبدُّون متغلِّبون على آراء الأمة، والكماليون أشدُّ استبداداً وتضييقاً على الأمة، والاتحاديون غَصبوا الوزارة، والكماليون ترقَّوا إلى غصب السلطنة، والاتحاديون لا دينيون غير مجاهرين، والكماليون مجاهرون في الإلحاد، فهم أضرُّ منهم بديننا ودنيانا.
كانت مقاومته لمصطفى كمال منذ وقتٍ باكرٍ، حيث كان على معرفةٍ به وبأخلاقه وعلاقاته واتصالاته منذ أن كان ضابطاً في الجيش.
وأول موقف تصدَّى فيه الشيخ لمصطفى كمال حين تولَّى الشيخ الصدارة العظمى نيابةً عن الداماد فريد باشا، فعهد السلطان محمد وحيد الدين إلى مصطفى كمال-سراً- بأن يقوم بثورة في شرقي الأناضول، وعيَّنه مفتشاً عاماً لجيوش الأناضول، ومنحه الصلاحيات الواسعة، وزوَّده بالأموال الطائلة. فما إنْ علم الشيخ بالأمر حتى ثارت ثائرته، وانفعل أشدَّ الانفعال، وبذل كل ما في وسعه من أجل منع مصطفى كمال من الذهاب إلى بلاد الأناضول، وعَمِل جاهداً لإقناع السلطان بالعدول عن رأيه، وأخذ يُحذِّره من مصطفى كمال، ويتوسَّل إليه بأن لا يرسله، بل يرسل ضابطاً غيره يقوم بتلك المهمة.
ولكنَّ ثقة السلطان المفرطة بمصطفى كمال جعلت جهود الشيخ تذهب سدًى حيث لم يجد منه أذناً صاغية.
وغادر مصطفى كمال الآستانة وجمع فلول الجيش حوله، غير أن الشكايات كثرت ضدَّه من قِبَل الولاة في الأناضول، فدعاه الشيخ بلسان وزير الحربية إلى العودة إلى الآستانة، فلم يُجبْ، فتكرر الاحتجاج من قيادة الاحتلال، وتمادت أصوات الشكاية من الولاة، وتكررت دعوة الشيخ له بالعودة إلى العاصمة فلم يستجب أيضاً، فأخذت قيادة الاحتلال تُهدِّد بإعلان الحرب، وعندئذٍ قرَّرت الوزارة إقالته من منصبه، وعرض الشيخ القرار على السلطان محمد وحيد الدين، فلم يوافق عليه، وأوصى بالاكتفاء بالاستمرار في دعوته إلى العاصمة. ولكنَّ مصطفى كمال تمادى في العصيان، حتى قرَّرت الوزارة قرارها الأخير في 8 تموز 1919م بإقالته، فذهب الشيخ إلى السلطان يرجوه الموافقة، ولما انقطع الأمل من استجابة مصطفى كمال إلى دعوة رئيس الديوان باسم السلطان اضطرَّ مُكْرهاً إلى قبول قرار الوزارة بإقالته، ولكنَّه ظلَّ يثق به، ولم يصدر أي قرار ضدَّه بل قام بإقالة الوزارة التي طلبت إقالته وكان الشيخ من أعضائها، وفي رئاستها.
لكن الشيخ لم ييْئَس، بل أخذ يخطب في الناس، ويُحذِّرهم من الانسياق وراء مصطفى كمال، الذي بدأ صيته يظهر في بلاد الأناضول، خاصةً بعد خطبته في ميدان السلطان أحمد الثالث بالآستانة في 21 أيار 1920م.
ويتصدّى الشيخ للكماليين فيكشف عن فساد دينهم، وينبِّه المسلمين على خطرهم على الإسلام، حتى لا يظنوا بهم خيراً فيقتدوا بهم، وحتى لا يتورطوا في إعانتهم وتشجيعهم على مبدئهم غير الديني من حيث لا يشعرون، وأخذ الشيخ يقدِّم نماذج مما كتبه بعض الكماليين للدلالة على فساد دينهم، واستخفافهم بالقرآن الكريم والتعاليم الإسلامية ومجاهرتهم بنبذها واستبعادها. من ذلك ما صرحت به جريدة (طنين) و(لوزان) وما قاله فالح رفقي من أن حكومة الأتراك اليوم حكومة لا دينية.
ولما ظهر الكماليون للناس بوجههم السافر، وقاموا بإلغاء الخلافة الإسلامية إلغاءً تاماً، وإلغاء الوزارة والمحاكم الشرعيتين والمدارس الدينية والأوقاف؛ ازدادت مقاومة الشيخ لهم، سيما لَمّا وَجد بعضَ المسلمين الذين يُؤمِّلون منهم الخير، ويُؤوِّلون أعمالهم وجميع تصرفاتهم لتبدو كأنها تتفِّق مع الإسلام وأحكامه؛ كما أخذ يكتب عن الكماليين موضحاً خروجهم على الإسلام، واعتمادهم على الغرب في كلِّ شؤونهم؛ مستشهداً بتصريحاتهم التي نشروها آنذاك في الجرائد التركية (إيلري).
ويكشف الشيخ عن علاقة الكماليين باليهود، ويستدل على ذلك بعدة أمور:
Zأنّ (قرهصو) الاتحادي اليهودي الشهير هو الذي أبلغ السلطان عبد الحميد قرار خلعه، مما يدل على أنَّ لليهود إصبعاً في إسقاطه، وإبعاده عن عرش الخلافة.
Z اتصال مصطفى كمال بالمحافل الماسونية في الآستانة، وكثرة تردُّده عليها، وذلك قبل انتقاله إلى بلاد شرقي الأناضول بأمرٍ من السلطان محمد وحيد الدين.
Z أنَّ أول وفد دخل الأستانة من الكماليين نزل في (محفل الشرق) الماسوني.
Z أن أول مانِحي إتاتورك رتبة "البطل" هم الأوروبيون ثم قلدهم كثير من المسلمين دون تعمق. وقد بلغ عدد ما ألف في أوروبا بشأنه أكثر من ستمئة كتاب!
ويكشف الشيخ أيضاُ عن تواطؤ الكماليين مع الإنكليز، ووقف الشيخ أمام انتصار الكماليين على اليونان، وإخراجهم من أزمير موقف المتأمِّل والمتفكِّر، واستطاع بحكم معرفته بمصطفى كمال، وبما يدور حوله من أحداث أن يكشف عن حقيقة ما حصل في فتح أزمير، مما يؤكد صلة مصطفى كمال بالإنكليز، وأن هذا الانتصار كان مساومة على إلغاء الخلافة الإسلامية ومقومات تركية الإسلامية من الدين والأخلاق والآداب وإقامة جمهورية معادية للدين مقامها. وأن انسحاب اليونان من أزمير ومن ثم الإنكليز من إستانبول لكي يُظهِروا مصطفى كمال أمام العالم الإسلامي بصورة البطل المسلم المنتصر فيكتسب بذلك قوةً وسُمعةً يستطيع بها تحقيق مآربه السيئة.
ويقول: "ليس مرمى الكماليين فيما فعلوه سوى غرضين:
أحدهما: نشل السلطة من آل عثمان، ونقلها إلى مصطفى كمال.
والغرض الثاني:إلغاء الخلافة، وإبطالها على التدرج، رَوْماً لإخراج حكومتهم من أن تكون حكومةً إسلاميةً".
كما بيّن ما يؤدي إليه الفصل بين الخلافة والسلطة، حيث قال: "إن تجريد الخلافة عن السلطة يُؤدي إلى الاستهانة بالدين بواسطة الاستهانة بالخلافة.
وقد عارض الشيخ الإجراءات العلمانية التي قام بها الكماليون ونقدها بشدَّة، وحلل الدوافع الكامنة خلفها، ومن ذلك قوله عن لبس القبعة الإفرنجية. ويُبييِّن الشيخُ الأضرارَ والآثار السيئة الناتجة عن ترك الكتابة بالحروف العربية فمِن شأن ذلك أن يقطع الصلة بتاريخ الإسلام وتاريخ الترك المسلمين ومعارفهم (فضلاً عن القرآن الكريم). ولقد بلغت شدّة خصومة الشيخ للكماليين إلى حد أنّه كان يرى أن جميع أعمالهم وإجراءاتهم العلمانية هي بمثابة فتح حصن الدين من الداخل، وبمثابة هدم الإسلام من أساسه.
لذا فقد عدَّه الكمالييون عدواً لدوداً لهم، وآذوه في نفسه وفي أهله وماله، وحرِصُوا على القبض عليه وشَنقه لكنه استطاع أن يهرب خارج البلاد، وصادروا نُسخ كتابه (النكير على منكري النعمة) ومنعوها من الانتشار، كما أنهم قطعوا معاشه الذي كان يُجرى له بصفته مدرساً عاماً بجامع الفاتح، وأسقطوا عنه الجنسية التركية، كما أوردوا اسمه هو وابنه إبراهيم ضمن قائمة الأشخاص غير المرغوب فيهم وتم نفيهم خارج البلاد، ومنعهم من دخولها.
تنقلاته وأسفاره:
فرَّ الشيخ مصطفى صبري بدينه تاركاً وطنه تركيا مرتين، الأولى في عهد الاتحاديين، والثانية في عهد الكماليين، وتنقل بين بلادٍ عديدة واجه خلالها مصاعب جمَّة.
أما سبب خروجه الأول فكان حينما استفحل نفوذ الاتحاديين وحاولوا القبض عليه ولكنه استطاع أن يفرَّ على ظهر أحد البواخر عام 1913م، والتجأ إلى مصر، أقام فيها مدَّة، ثم سافر منها إلى البوسنة والهرسك، ثم انتقل إلى باريس، وأقام فيها فترة من الزمن ثم انتقل منها إلى رومانية، وأقام في بوخرست.
في تشرين الثاني 1922م خرج من موطنه تركيا خروجاً نهائياً.
إلا أنه فوجئ بمجرِّد وصوله إلى الإسكندرية بالمقابلة السيئة، والعداء السافر من قِبل المصريين، حيث كانت القنصليات الأجنبية والتركية حرضت الناس ضد الشيخ فصاروا يسبونه ويؤذونه، حتى رموه وأهله بالطماطم الفاسد في شوارع القاهرة، واتهموه بالعداوة للإسلام والمروق من الدين!! لموقفه ضد إتترك الذي كان الناس مغشوشين به.
ولم يلبث الشيخ أن تلقَّى دعوة من الشريف حسين للنزول في ضيافته بمكة المكرمة، فسافر وأهله ومكث فيها مدة خمسة أشهرٍ، ثم اضطر إلى الخروج منها بسبب ما أصاب عائلته من الأمراض الناشئة عن حرارة الإقليم، فعاد مرةً أخرى إلى مصر. واتفق في تلك الأثناء أن نشر أحمد شوقي قصيدة يمتدح فيها مصطفى كمال -حيث كان مغرراً به وإن رثى الخلافة فيما بعد- وسب السلطان محمد وحيد الدين، فرد عليه الشيخ نظماً ونثراً مما زاد سخط المصريين عليه.
وفي شهر كانون الآخر 1924م انتقل الشيخ إلى لبنان، وأقام في بيروت تسعة أشهرٍ، ثم انتقل بعد ذلك إلى رومانيا، لأنه كان يملك بيتاً هناك، ولوجود بعض أصحابه فيها، ووجود المسلمين فيها بكثرة، ولكنه فوجئ بأنَّ بيته هناك قد استولى عليه الشخص الذي وكَّله به فضاقت به الحال هناك، فسافر إلى اليونان، تُرافقه أسرته في شهر نيسان 1927م، وأقام في تراقية الغربية المسلمة اليونانية في مدينة (كُملْجِنَة) التي تسكن بها الاقليَّة التركية المسلمة، وظلَّ فيها قرابة خمس سنوات.
ولما عقدت المعاهدة بين تركيا واليونان زار رئيس الحكومة اليونانية آنذاك (فنيزيلوس) تركية، واجتمع بمصطفى كمال في أنقرة وكان من ضمن بنود المعاهدة إيقاف جريدة يارين (التي أسسها إبراهيم صبري الابن الأكبر للشيخ في اليونان وكان يكشف فيها حقيقة ما يحصل حول دولة الخلافة، فانتشرت في العالم وكانت تُهرَّب إلى تركيا)، ومنع إصدارها، وإخراج مصطفى صبري من اليونان، وتم تنفيذ الشروط غير أن والي مدينة (كُملْجِنَة) اعتذر من الشيخ وطلب منه بكل احترام وأدب وتقدير أن ينتقل إلى (باتراس) مركز (بولونبس) بناءً على طلب الحكومة اليونانية، فلما وصل فوجئ بأن جميع رجال الدين النصراني هناك من بطارقة ورهبان وقسس قد خرجوا لاستقباله مرحبين، وانحنوا أمامه إجلالاً له وتقديراً لعلمه، وبقي الشيخ هناك عدَّة أشهر وهو في منتهى القلق والاضطراب، وحرص كل الحرص على الخروج من تلك البلاد إلى أي بلد مسلم، ولما باءت كل محاولاته بطلب المساعدة من رؤساء الدول الإسلامية من قبوله لاجئاً عندهم وأن أحداً من رفاقه لم يقدر على مساعدته لم ييئس، بل قرَّر مع ابنه إبراهيم السفر إلى أثينا فسافرا، وتركا العائلة في (باتراس)، وأخذا يبحثان بين سفارات وقنصليات الدول العربية والإسلامية، وأخيراً دخلا السفارة المصرية، فاستقبلهما السفير المصري استقبالاً طيباً، وشرحا له الأمر، فقدّم لهما تأشيرة الدخول سنة 1932م.
استقراره في مصر:
نزل في 20 كانون الثاني عام 1932م ضيفاً في القاهرة عند صهره الأستاذ محمد علي أفندي في مصر الجديدة. ولكنه هذه المرة حظي بمكانة كبيرة بين العلماء والمفكرين وكثير من الناس الذين آذوه س
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن