العالِمة الحافظة كَريمة... وشبح العُنُوسة
كتب بواسطة إعداد: منال المغربي
التاريخ:
فى : تراجم وسِيَر
2200 مشاهدة
تُعتبر ظاهرة العنوسة من أهم المشاكل التي باتت تؤرق البيت العربي. وتُشير الإحصاءات في بعض الدول العربية إلى أنها فعلاً باتت ظاهرة من حيث العدد ومن حيث الانعكاسات النفسية والاجتماعية على السواء.
ولسنا هنا في معرض الحديث عن أسباب تفاقم هذه الظاهرة في أمتنا الإسلامية أو التوقف عند آثارها النفسية والاجتماعية، بل كل ما يهمنا من هذا الموضوع هو:
كيف تواجه الفتاة المسلمة شبح العنوسة؟
· هل تقف عند أعتاب الحسرة وتتلفع بدثار الندامة بسبب عدم تيسّر الزواج لها؟
· هل تجعل هذا الأمر يؤثِّر على نفسيتها ويجعلها محاصرة بالهمّ والقلق؟
· هل تكترث لنظرات الناس المشفِقة؟
· وما هي الصورة التي يجب أن تطبعها في أذهانهم عنها؟
كل هذه الأسئلة سنجد إجابتها في سيرة نموذج شامخ من النساء اللاتي لم يُكتب لهن الزواج لسببٍ لا ندريه: (كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم المروَزية)، وتُكنى بأم الكِرام...
أُمُّ الكرام
تُعتبر كريمة من المحدِّثات الشهيرات، بل هي من شهيرات النساء عموماً، تلقّى عنها الحديثَ جماعةٌ من الأعلام الكبار، منهم: الحافظ الخطيب البغدادي، صاحب كتاب تاريخ بغداد، وأبو المحاسن المصري، المؤرخ المعروف، والحافظ السمعاني، المحدِّث والنسّابة المشهور، والحافظ أبو طالب الحسين بن محمد الزينبي، وغيرهم كثير...
اشتُهرت كريمة برواية صحيح البخاري وإسماعه، فارتبط اسمها باسم صحيح البخاري، فلا يكاد أحد يترجم لها إلا أشار إلى ذلك، ترجم لها جماعة من المؤرخين، منهم: ابن الأثير في (الكامل)، وابن الجوزي في (المنتظم)، والذهبي في (السِّير) وفي (العِبَر)، وابن كثير في (البداية والنهاية)، وابن العماد في (شذرات الذهب)، والزِّركلي في (الأعلام)، وغيرهم.
ونتوقف عند ترجمة العالِمة كريمة المروزية من كتاب (سير أعلام النبلاء)، لمؤرِّخ الإسلام الحافظ الذهبي، قال رحمه الله تعالى: «الشيخة، العالِمة، الفاضلة، المُسْنِدة، أُمّ الكرام، كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم المروزية، المجاوِرة بحرم الله. سمعَتْ من: أبي الهيثم الكشميهني صحيح البخاري، وسمعت من زاهر بن أحمد السرخسي، وعبد الله بن يوسف بن بامويه الأصبهاني. وكانت إذا روت قابلت بأصلها. ولها فَهم ومعرفة مع الخير والتعبّد. روت «الصحيح» مرات كثيرة، مرة بقراءة أبي بكر الخطيب في أيام الموسم. وماتت بِكراً لم تتزوج أبداً. حدّث عنها: الخطيب، وأبو الغنائم النرسي، وأبو طالب الحسين بن محمد الزينبي، ومحمد بن بركات السعيدي، وعلي بن الحسين الفراء، وعبد الله بن محمد بن صدقة بن الغزال، وأبو القاسم علي بن إبراهيم النسيب، وأبو المظفر منصور بن السمعاني، وآخرون.
قال أبو الغنائم النرسي: أخرجت كريمة إليَّ النسخة بالصحيح، فقعدتْ بحذائها، وكتبت سبعَ أوراق وقرأتها، وكنت أريد أن أعارض وحدي فقالت: لا، حتى تعارض معي فعارضتُ معها. قال: وقرأتُ عليها من حديث زاهر.
وقال أبو بكر بن منصور السمعاني: سمعتُ الوالد يذكر كريمة، ويقول: وهل رأى إنسان مثل كريمة. قال أبو بكر: وسمعت بنت أخي كريمة تقول: لم تتزوج كريمة قط، وكان أبوها من كشميهن(1)، وأمها من أولاد السياري(2)، وخرج بها أبوها إلى بيت المقدس، وعاد بها إلى مكة، وكانت قد بلغت المئة. قال ابن نقطة: نقلت وفاتها من خط ابن ناصر سنة خمس وستين وأربع مئة.
قلتُ (الذهبي): الصحيح موتها في سنة ثلاث وستين (463 هـ)... وقال أبو جعفر محمد بن علي الهمداني: حجَجْتُ سنة ثلاث وستين فنُعِيَتْ إلينا كريمة في الطريق ولم أُدركها» اهـ.
دروس وعبر
من الدروس المستفادة من سِيرة هذه العالمة الجليلة أنّ كونها امرأة لم يمنعها من الحرص على طلب العلم الشرعي مع صعوبة تحصيله في ذلك الوقت، وما يتطلبه من الارتحال والسفر، فكانت رحمها الله تعالى تتحيّن موسم الحج الذي كان ملتقىً للعلم والعلماء من أجل تلقِّي العلوم من أفواه العلماء الثِقاة؛ حتى بلغت درجة عالية من العلم والفَهم والنباهة وحدّة الذهن بحيث ترحَّلَ إليها أفضل العلماء، وعُقد لها مجلس بمكة المكرمة تجتمع فيه بالطلبة والأفاضل من رجال كل علم، وكان أكثر مَيْلها إلى الحديث، حتى بلغت فيه حدّاً لم يبلغه غيرها، كما تقول زينب فواز في كتابها (الدُّرّ المنثور في طبقات ربّات الخُدور). فأين حرص نساء المسلمين اليوم على طلب العلم الشرعي مع توفر طرق تحصيله من الانتساب إلى الكليات والمعاهد الشرعية والتفوق فيها، إلى حضور محاضرات يُلقيها علماء ثقاة، وقراءة الكتب الإسلامية بموضوعاتها كافة، وسماع المحاضرات المسجلة، وكذلك تصفح المواقع العلمية المفيدة على الشبكة العنكبوتية لما تحتويه من كَم هائل من المعلومات والعلوم..؟
أما أهم درس نستفيده من حياة أُم الكرام فهو: أنّ مكانة المرأة ليست محصورة بزواجها فقط، فكم من امرأة غير متزوجة نفع الله بها خلقاً كثيراً؟ وهنا لا ندعو إلى الزهد بالزواج لأن هذا ليس من هَدْي ولا سنن المرسلين، بل نهمس بأذن كل فتاة فاتها قطار الزواج أو تأخر بها أن لا تتأثر بنظرة الناس والمجتمع طالما أنّها تستغل مواهبها ومهاراتها وطاقتها ووقتها من أجل الدعوة إلى الله والإرشاد والتوجيه، أو للمواظبة على طلب العلم والتعلّم، أو لنفع مجتمعها بشكل عام.
رحم الله العالمة الفاضلة كريمة المروزية، فهي مثال يُحتذى في حرصها على العلم وأخلاقها الفاضلة؛ فمتى سيأتي الوقت الذي سنقرأ فيه مواقف وأحداثاً من سيرة حياة: «العالمات العزباوات» تأسياً بالكتاب الذي ألّفه الشيخ العلاّمة عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله، الذي حفل بأسماء العديد من العلماء الذين آثروا طلب العلم على الزواج أمثال الإمام: ابن تيمية والإمام النووي وسيد قطب وغيرهم حيث جمع أخبارهم في كتاب: «العلماء العزّاب»؟!
ـــــــــــــــــــــــــ
هامش:
1. كُشْمِيْهَن: قرية من قرى مَرْو القديمة.
2. «أولاد السياري: نسبة إلى سيار وهو جد المنتسب».
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة