متخصّصة في مناهج تعليم اللغة العربية، كاتبة في مجال التربية | باريس
الإنسان المعاصر و ضبط النَّفس
أقامت مدرسة ابتدائيّة في إحدى ضواحي باريس تظاهرة تحت عنوان: "من خطر الأجهزة الرّقميّة احفظ ابنك..!" وتمّ توزيع مطويّة خدمة لهذا النّشاط صيغت بكلٍّ من اللّغات الثّلاث: العربيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة، وذلك اعتباراً لتنوُّع أصول الأولياء.. أعجبني أوّلاً الاهتمام بهذا الموضوع الحسّاس والمبادرة إلى مناقشته مع الأولياء. وأعجبني ثانياً الاهتمام بلغة وثقافة ذوي الأصول المتنوّعة، فهذا الاعتبار وسيلة راقية لدفع الجميع إلى المشاركة الإيجابيّة في هذا النّشاط البنّاء.. وأعجبني أكثر اشتراك الأطفال بتنظيم مسابقة تحت عنوان "كيف تلعب بعيداً عن الشّاشات "، لاختيار أحسن تلميذ رسّام..
واستقطب انتباهي المحتوى والوسائل التّربويّة النّاجعة الّتي اتُّخذت لتوجيه الوليّ وكيفيّة تدريب الطّفل على ضبط نفسه ليصبح هو المتحكِّم في الأجهزة الرّقميّة لا أن تكون له "أفيوناً"..
نبّه المنظِّمون لهذا النّشاط من مَغبَّة المنع الجافِّ الّذي لن يزيد الطّفل إلّا إقبالاً وتمسُّكاً بالشّاشات، وقالوا بضرورة حظرها قبل الثّلاث سنوات، ثمّ السّماح باستخدامها تدريجيّا مع شرح المضارِّ والمنافع إشعاراً بخطرها، وتوخِّي الحوار والإقناع للحدّ من وقت الاستخدام إلى أن يصل الطّفل إلى مرحلة تمكّنه من حسن الاستفادة منها. وحثّوا على ملء الوقت بممارسة أنشطة أخرى بعيداً عن الوسائل الرّقميّة. كما لفتت الجهة المنظّمة نظر الأولياء إلى حرمة الأمور الخاصّة ونبَّهت أبناءهم إلى خطر عرضها على العموم، فكلُّ ما يعرض في الشّبكة يصبح مُلكاً للجميع هذا الّذي قد يؤدّي إلى ضياع الحياة الخاصّة فتضطرب الأسرة و ينعكس هذا سلباً على سائر المجتمع. و نذكر هنا ما نقلته إحدى المجلّات الرّقميّة: من أنَّ رجلاً سعوديّاً طلّق زوجته في اللّيلة الأولى من زواجه لأنَّها أصرَّت على قضاء الوقت الطّويل مع الهاتف وعبر الشّبكة (minutenews.fr) لـــتـــشـكـر كلَّ من حضر حفل الزّفاف..!
أتراها تُنظَّم في البلاد العربيّة مثل هذه الأنشطة الحاثّة على ترويض النّفس لتستعلي عن الشّهوات عند استخدام الوسائل الرّقميّة وفي سائر الحياة، لتحقيق التّوازن المطلوب للفلاح..!؟ أم ترى المربُّون هناك يكتفون بالحديث عن أهميّة إدماج الوسائل الرّقميّة في الحياة المدرسيّة.. ويسارع الأولياء إلى اقتناء اللّوحات الرّقميّة لأبنائهم دون التّمعُّن في محتوياتها و لا توجيه إلى حُسْن استخدامها، و هم يعتقدون أنّهم يواكبون الحداثة.. هذه الحداثة الّتي أصبحت هدف الجميع في كثير من الأحيان و دون رويّة..!؟
أليست المناداة بالتّحكّم في النّفس أساس التّربية الإسلاميّة القائمة على التّوحيد..! إنّ المسلم توجِّهُه قوَّة فوقيَّة أحاطت بكلّ شيء خبراً وعلماً ورحمة.. والنّفس الواثقة بخالقها يمتلئ قلبها رضا فتسارع إلى الاستجابة لأوامره سبحانه وبمحض إرادتها. فلا تستغرقها شهوات الحسّ، وإنّما تتطلّع دائماً إلى القيم العليا، وتبذل من الجهد ما لا يستطيعه غيرها، فتستعلي على الهوى ولا تحتاج لرقيب من بني البشر. ويبرز هذا واضحاً في موقف يوسف عليه السّلام مع امرأة فرعون الّتي همّت به وهمّ بها، ومع ذلك امتنع عن الفاحشة.. الإنسان في عقيدة المسلمين مخلوق مركّب فيه العقل والشّهوة ولديه استعداد للفجور والاستقامة، ومهمّته جهاد نفسه. لقد تربّت توجيهات الرّحمن على التّوازن في كلّ شيء، فتحوّلت شخصيّة أبي بكر الصّدّيق اللّيِّنة إلى قوّة في حروب الرّدّة، ولم تمنع الصّلابة عمر من البكاء تبتّلاً حتّى سمعه آخر صفّ من المسلمين.. قدّر هذا الدّين ضعف الإنسان فلم يكبته بل عمد إلى تهذيبه لتحقيق أكبر قدر من الرُّقيّ. استخدم ما يرغِّب، وحذّر فاعتمد الإقناع لا الإكراه، وتدرَّج في فرض الفرائض على مراحل ودرجات، فرضت الصّلاة ركعتَين ثمّ أقرّت في السّفر وزيدت في الحضر إلى أربع في الظّهر والعصر والعشاء.. وأعدّ الإسلام النّاس نفسيّاً وذهنيّاً لفطمهم عن المحرّمات تدريجيّاً وخير مثال تحريم الخمر.. ثمّ وجّه إلى ملء الفراغ لمقاومة الخاطر الّذي يملي الخضوع للشّهوات، وقد قيل: "إذا لم تشغل نفسك بالخير شغلتك بالشّرّ"..
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة