الحج... رحلة القلوب
كتب بواسطة د. محمد راتب النابلسي
التاريخ:
فى : المقالات العامة
2163 مشاهدة
إن الحج هو الفريضة البدنية المالية الشعائرية، وهي في حقيقتها رحلة نفوس لا رحلة أشباح، لأن الله سبحانه وتعالى يقول (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زرع عند بيتك الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).
ومناسك الحج من شعائر الله، قال تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ).
قال بعض العلماء: أداء الشعيرة شيء وتعظيمها شيء آخر، من تعظيمها أن تؤديَها أيها الحاجُّ كما فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تعظيمها أن تؤديَها على شوق وطيب نفس؛ لا على تأفُّف وتململ، ومن تعظيم شعائر الله أن يؤديها الحاج ويتمنى أن يؤديها مرات ومرات.
إن المشاعر التي يشعر بها الحاجّ _ وهو في المشاعر المقدسة _ هي بوتقة ينصهر فيها قلب المؤمن؛ حتى يتخلص من أدْرانه عَوداً به إلى يوم ولدته أمه، نقي القلب، صافي النفس، تلك هي الغاية الكبرى من الحج، أن تعود أيها الحاجُّ كَيوم ولدتك أمُّك.
فإن الحاجَّ المحرمَ يُحظَر عليه لُبسُ المخيط من الثياب، ويُحظر عليه التطيُّبُ بكل أنواع الطِّيْب، ويُحظر عليه الحلقُ والتقصيرُ، ويُحظر عليه مقاربةُ المُتَعِ التي أُبيحت له خارجَ الحج، كلُّ ذلك ليُحْكِمَ اتصالَه بالله، وليسعد بقربه وحده، بعيداً عن كل مداخلة من مُتع الأرض، ليتحقَّق الحاجُّ أنه إذا وصل إلى الله وصل إلى كلِّ شيء، وأنَّ الدنيا كلَّها لا يمكن أن تُمِدَّ الإنسانَ بسعادة مستمرة، بل متناقصة، ولينطلق لسانُه بشكل عفوي قائلاً: يا رب، ماذا فَقَدَ مَن وجدك ؟ وماذا وَجَدَ مَن فَقَدَكَ ؟
ويأتي موقف عرفة. فيوم عرفة من الأيام الفُضْلى، تُجاب فيه الدعوات، وتقال العثرات، ويباهي الله فيه الملائكة بأهل عرفات، وهو يوم عظَّم الله أمرَه، ورفع على الأيام قدْره، وهو يوم إكمال الدِّين، وإتمام النعمة، ويوم مغفرة الذنوب، ويوم العتق من النيران، إنه يوم اللقاء الأكبر بين العبد المنيب المشتاق، وبين ربه الرحيم التواب، بين هذا الإنسان الحادث الفاني المحدود الصغير، وبين الخالق المطلق الأزلي الباقي الكبير، وعندها ينطلق الإنسان من حدود ذاته الصغيرة إلى رحاب الكون الكبير، ومن حدود قوته الهزيلة إلى الطاقات الكونية العظيمة، ومن حدود عمره القصير إلى امتداد الآباد التي لا يعلمها إلا الله. يوم عرفة يوم المعرفة، ويوم عرفة يوم المغفرة، ويوم عرفة يوم تتنزل فيه الرحمات على العباد من خـالق الأرض والسماوات، ومن هنا قيل: مَن وقف في عرفات ولم يغلب على ظنه أن الله قد غفر له فلا حجَّ له. عن جابر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة؛ ينـزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، يقول انظروا عبادي جاؤوني شُعثاً غُبْراً ضاحين، جاؤوني من كل فَجٍّ عميق، يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم يُرَ يوم أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة» (صحيح ابن حبان).
موقف عجيب في عرفات، يغطيه نبات بشري مختلف ألوانه، أغصانه تلك الأيدي المرفوعة بالدعاء إلى رب الأرض والسماء، يرى الحاج بين يديه صورةً مصغَّرةً للمحشر العظيم يوم القيامة، وعليه أن يستعدَّ له منذ الآن، لأن رحلة الحج يعود منها الإنسان إلى وطنه، ولكن المحشر العظيم يوم القيامة لا يعود منها الإنسان إلى وطنه، إنها رحلته قبل الأخيرة استعداداً للرحلة الأخيرة.
وفي رمي الجمرات بعض الأسرار؛ فلنبدأ بالجمرة الكبرى في اليوم الأول، وكان صلى الله عليه وسلم يخصُّ الجمرتين الأولى والوسطى بتطويل الوقوف عندهما للدعاء، إنها ثلاث جمرات وبينها مسافة، ليظل المؤمن واعياً تماماً، لا ينام حتى لا يسقط سلاحه، بينما العدو منه على مرمى حجر، وعليه أن يعلم أن المعركة مع الشيطان متعددة المواقع، ومستمرة، وممتدة مع عمره، لذلك ينبغي أن تُرمى ثلاث جمرات في ثلاثة أيام، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه. يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: لا يحصل إرغام أنف الشيطان في أثناء رجمه إلا بطاعتك للرحمن، ومَن عاد بعد الحج إلى ما كان عليه من المعاصي والآثام، فليعلم علم اليقين أن الشيطان هو الذي رَجَمه. لقد استقطب البيت الحرام المؤمنين من قارَّات الدنيا الخمس، فجاؤوا نوعيات مختلفة، تحمل كل جماعة هموم مجتمعها.
الحج عبادة زُيِّنت بمحاسن وآداب، لا يُعقل ولا يُقبل أن يعود الحاج من أداء هذه الفريضة كما ذهب. لا يُعقل ولا يقبل أن يُوجد الحاجّ في المشاعر المقدسة دون أن يشعر بأية مشاعر مقدسة. لا يعقل ولا يقبل أن يتحرى الحاج سنةً أو مستحباً، ويرتكب من أجلها معصية، أو أن يتجاوز فريضة. لا يُعقل ولا يُقبل أن يحدثك الحاج عن كل شيء في الحج إلا الحج. لا يُعقل ولا يُقبل أن يرمي الحاج الجمرات تعبيراً عن معاداته للشيطان، ويعود إلى بلده ليكون أُلعوبة بين يدَي الشيطان. لا يُعقل ولا يُقبل أن يقتصر أمر الله في هذه الفريضة على أن يأتي الحاج من بلاد بعيدة ليجلس في المشاعر المقدَّسة، يأكل، وينام، ويتكلم في شؤون الدنيا..
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة