ليشهدوا منافع لهم
قال لي صاحبي يوماً: ما لي أراك ساهم الطرْف شارد الفكْر كأنَّ على رأسك الطير؟ فأجبتُه: تهفو نفسي، وتشتاق روحي لزيارة بيت الله الحرام، وقد عزمتُ على أداء فريضة الحج هذا العام إن شاء الله تعالى. فقال لي متعجباً: وماذا عن نشاطك الدعوي، وتجارتِك مصدرِ رزقك، ستتركهما لِـمَن؟ فأجبتُ: وما الذي يمنعني من الاستمرار فيها وأنا حاجٌّ زائر لبيت الله الحرام!!! فبادرني مندهشا: أأنت ذاهب لأداء العبادة أم لمزاولة أعمالك الخاصة؟؟ فشرحتُ له: لقد شرع الله الحج ركناً خامساً للإسلام، يتعبَّد فيه الحجيج لله تعالى، ويؤدُّون ما فَرَض الله عليهم من شعائر عظيمة، وإلى جانب ذلك أحلَّ لهم الاستفادة من هذا الموسم في منافع دينية ودنيوية؛ قال تعالى: (ليشهدوا منافع لهم)، وهي كثيرة، والمجال فيها متاحٌ، وهو دليل عظيم على يُسر الإسلام، وسهولة تعاليمه ومرونتها.. فردَّ عليَّ بانفعال: ما أنكر قولك هذا!!! فأجبته بثقة: وتأكَّد أن الكلام الذي ذكرتُه لك هو آثار يرويها السلف الصالح في تفسير هذه الآية الكريمة..
فقال صاحبي: وهل لك أن تتحفني ببعض تلك الآثار الطيبة..
فأجبته مبتسماً: قال ابن عباس رضي الله عنه: «هي الأسواق». وقال رضي الله عنه: «منافع الدنيا والآخرة؛ أما منافع الآخرة فرضوان الله، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البُدْن والربح والتجارات».
وقال مجاهد رحمه الله في تفسيره: «يعني الأجر في الآخرة، والتجارة في الدنيا». وقال: «أي التجارة وما أرضى الله من أمر الدنيا والآخرة.
وعن سعيد بن جُبير رحمه الله قال: التجارة. وعن أبي جعفر رحمه الله قال: العفو. وقال محمد بن عليٍّ رحمه الله: مغفرة.
وهكذا ترى يا صديقي أن من السلف مَن حصر المنافع في الجانب الديني فقط، ومنهم مَن توسَّع فجعلها تشمل الجانبين الديني والدنيوي.
ويذكر الماوَرْدي رحمه الله في تفسيره تلك الأقوال فيقول: (في الآية ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه شهود المواقف وقضاء المناسك. والثاني: أنها المغفرة لذنوبهم, قاله الضحاك. والثالث: أنها التجارة في الدنيا والأجر في الآخرة , وهذا قول مجاهد).
وقد رجَّح الطبري في تفسيره أنَّ المقصود من المنافع: الجانبَين الديني والدنيوي، وذكر كلاماً نافعاً في ذلك فقال: (وأولَى الأقوال بالصواب قول مَن قال: عَنَى بذلك: ليشهدوا منافع لهم من العمل الذي يُرضي الله، والتجارة، وذلك أن الله عمَّ لهم منافع جميع ما يَشْهَد له الموسم، ويأتي له مكة أيام الموسم من منافع الدنيا والآخرة، ولم يخصِّص من ذلك شيئاً من منافعهم بخبر ولا عقل، فذلك على العموم في المنافع التي وصفت).
لقد تنبَّه لذلك علماؤنا الأفاضل، فذكروا فيها نكتة لطيفة.. يقول الرازي رحمه الله: (إِنَّمَا نكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات).
وقال عالِم آخر في هذا الباب: وجاء لفظ "منافع" بصيغة التنكير، للتعميم والتعظيم والتكثير. أي: منافع عظيمة وشاملة لأمور الدين والدنيا، وليس في الإمكان تحديدها لكثرتها. فالأمر أيها الصديق الطيِّب فيه سعة كما ترى، ولا يصح أن نحجِّر واسعاً.
هنا قال لي صاحبي وقد بدأت بوادر الاقتناع تتَّضح على قسمات وجهه: فهلَّا شرحت لي بعض ما في الحج من منافع دينيَّة ودنيويَّة!!
فأجبتُه: حبّاً وكرامة، فلنستهلَّ كلامنا بالمنافع الدينية، فالحاجُّ عندما يُيَمِّمُ وجهه شطر البيت الحرام مُحرِماً ملبياً يضع نصب عينيه غاياته الأسمى من حجِّه وهي غفران ذنوبه، وتكفير خطاياه، وتطهير قلبه، وقبول طاعته؛ ليصل إلى أسمى أمنياته وهي دخول الجنة، والنجاة من النار.
ومن تلكم المنافع الجليلة دعوة الناس إلى المكارم والفضائل بالقدوة الحسنة، والخُلُق السَّامِي، والتعامل الراقي.
ومن ذلك أمرٌ بالمعروف إذا تُرك، ونهيٌ عن المنكر إذا ارتُكب، والعمل على تصحيح ما يقع فيه الحجيج من أخطاء عقدية أو شرعية أو خُلُقية.
وأما المنافع الدنيوية فهي أكثر من أن أحصيها، ولكن سأعطيك أمثلة لها:
ففي الحجِّ يستطيع الحاج التاجر سَوق تجارته من بلده إلى مكة، حيث يعرضها على الحجيج الذين قَدموا من كل حدْب وصَوب، ومن كلِّ فجٍّ عميق وقطرٍ ناءٍ، لعلَّ الله يُكرمه بربحٍ مباركٍ في هذا المكان الطاهر، ومن جهة أخرى فيه نفع ماديٌّ عظيم عائدٌ لمصلحة أهل خير البقاع وأحبها لله تعالى.
وفي هذا الموسم الطاهر يلتقي الحاجُّ بإخوانٍ له جمعتهم أخوة الدين، ورابطة الإسلام، فكأنَّهم في مؤتمر دولي عظيم.
ويتحقق مبدأ العدل والمساواة بين جموع الخلائق في هذا الاجتماع العظيم، فتقف الجموع على قَدَم السواء، ويغدو الجميع سواسية، فلا فضل لأبيض على أسود، ولا لغني على فقير، ولا لرئيس على مرؤوس إلا بالتقوى والعمل الصالح.
ومن المنافع العظام تربية ذلك الجمع الطاهر على قِيَم النظام والترتيب والدقة في الموعد الزماني والمكاني، فلكلِّ ركنٍ وواجبٍ زمانٌ ومكانٌ دقيقٌ محدَّدٌ من الشارع، لا يصح خلافه، ولا يُقبل تغييره.
أَبعْد كل تِلكُم المنافع لا زلتَ تظن أن الحج شُرع للعبادة فقط!؟
فبدا صاحبي متردداً بعض الشيء فقال بعد لأيٍ: ولكن ألا يُنافي كلامك هذا إخلاص العبادة لله تعالى؟
فرددت عليه: اطمئن يا صديقي، فملاحظة المنفعة عند قصد العبادة لا تنافي الإخلاص، ولا تنقص من أجر العامل، وهي مثل الثواب المرتب على العمل: هي في الدنيا وهو في الآخرة، كلاهما من رحمة الله التي نرجوها بأعمالنا.
وأُبشِّرك بأن الله سيبارك لك كلَّ عمل عملته في الحج سواء في ذلك العمل الديني أو الدنيوي.
هنا شدَّ صديقي الحبيب على يديَّ مبارِكاً ومشجِّعاً: فلتمضِ إلى حجِّك قرير العين هانئ البال، ولتسعد بما شرعه الله فيه من منافع عظيمة تفيد دنياك وآخرتك.
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة