سيّد قطب.. ذلك المظلوم
خمسون عاما مضت على إعدام المفكر الإسلامي الكبير سيد قطب رحمه الله. لم تنفع اتصالات وتدخلات العديد من الزعماء (بمن فيهم الملك فيصل ملك السعودية، ورئيس العراق عبد السلام عارف) والمفكرين والشخصيات والهيئات العربية والإسلامية في إثناء الرئيس المصري عبد الناصر عن إعدامه، الذي نفذ في 29 أغسطس/آب 1966.
ربما مرَّ على شريط ذكريات كل من عبد الناصر وسيد قطب عند تنفيذ الإعدام ذلك اللقاء الذي تحوّل حفلا تكريميا، والذي أقامه ضباط ثورة 23 يوليو/تموز 1952 (التي أسقطت الحكم الملكي في مصر) لسيّد قطب بحضور عبد الناصر نفسه وجمهور واسع من الضباط والدبلوماسيين والأدباء والمهتمين، في أغسطس/آب 1952 في نادي الضباط في منطقة الزمالك.
بعد 14 عاما صدقت توقعات سيد، وأُعدم بعد أن أمضى معظم ما تبقى من حياته في سجون "تلاميذه" من ضباط ثورة يوليو.
*
خمسون عاما مضت على استشهاد سيّد.. ولكن لا يكاد يكون له بواكٍ.. ولا كلمات وفاء؛ فقد كثرت عليه السكاكين، وتناوشته سهام المتنطعين وأنصاف المثقفين، وعلماء السلاطين، وأتت على فكره ومواقفه غيوم سوداء، وحملات تحريض وشيطنة، حتى تمّ حصر صورته بشكل مُزوَّر في شخصية تكفيرية متطرفة منغلقة.
إن معظم من كتب عن سيّد قطب ناقدا أو متهما ركز في كثير من الأحيان على سيّد وفكره من خلال مقاطع مجتزأة أو من خلال ما كتبه آخرون.. إن هؤلاء الذين ركزوا على بعض الجوانب "الملتبسة" في كتابات سيّد، وغضوا النظر عن أدبياته الرائعة ونصوصه الإبداعية والتجديدية وروحه الثورية ومواقفه التي دفع حياته ثمنا لها.. هؤلاء ظلموا سيد، وشاركوا في وضع حاجز نفسي بين الناس وبين سيّد، ولم يخدموا بذلك سوى أنظمة الفساد والاستبداد وتيارات التغريب وأتباع "أذناب البقر"...
إن طه حسين الذي كان يوما مسؤولا عن سيّد قطب في وزارة المعارف قال في اللقاء التكريمي الذي أشرنا إليه أعلاه "إن في سيد خصلتين هما المثالية والعناد"، وبعد أن تحدث عن أثر سيد في ثورة يوليو 1952 ورجالها ختم كلمته بالقول "إن سيد قطب انتهى في الأدب إلى القمة والقيادة؛ وكذلك في خدمة مصر والعروبة والإسلام". ربما كانت " المثالية والعناد" وصفًا دقيقًا لسيّد، غير أنه مع التزامه الإسلامي، كان معدنه الأصيل يعكس صفات "التقوى والصبر والجرأة في الحق"؛ وهي أبرز صفات المصلحين وقادة الدعوات.
*
سيّد الذي تعرض للظلم لم يأخذ حقه كأديب وناقد أدبي من الطراز الأول، فُتحت له أهم المجلات الأدبية في عصره، وأبرَزَ جمال اللغة العربية، كما أبرز إعجاز القرآن وعظمة آياته. وله شِعر جميل أخذ طابعا وطنيا وإسلاميا وإنسانيا ولامَسَ هموم الناس والمجتمع؛ وكتب في الوصف والحنين والتأمل والرثاء والتمرد والثورة وفلسطين..
*
من ناحية ثانية، عبّر سيّد عن روح ثورية إسلامية ووطنية هائلة كانت حافزا وملهما لأبناء جيله ولمن بعده في مواجهة الساسة والمثقفين والعلماء الفاسدين والأنظمة الفاسدة والمستبدة. وأبرَزَ الإسلام بروحه الحركية العملية التي ترفض الظلم وتنتصر للمظلوم وتنزع الشرعية عن الطغاة؛ ولذلك قدّم بمقالاته "النارية" ورؤاه الفكرية بنية أساسية دافعة للثورة على الملكية في مصر، وغيرها من الثورات وحركات التغيير. وعدَّه ضباط ثورة يوليو مُلهِمًا لهم. وقبل الثورة بأربعة أيام (19/7/1952) كان عدد من ضباطها، بينهم عبد الناصر، يجتمعون في بيته لوضع ترتيباتها؛ وبعد نجاحها كان سيّد هو الشخص المدني الوحيد الذي يحضر أحيانا اجتماعات مجلس قيادة الثورة.
لم تمض ستة أشهر حتى افترق سيد عن الثورة ورجالاتها بعد أن رأى ما لا يعجبه، فتركهم وانتقدهم. وفي سنة 1954 حكم عليه نظام عبد الناصر بالسجن 15عاما (ضمن حملته ضدّ الإخوان المسلمين).. فازداد صلابة وإصرارًا، بالرغم مما عاناه في السجن من أمراض وآلام.. وكتب قصيدته الشهيرة "أخي أنت حر وراء السدود"، كما كتب قصيدته "هُبَل.. هُبَل" التي رأى فيها كثيرون وصفا لعبد الناصر ونظامه.
"نقل كاتبو سيرة سيّد عنه عبارات عندما طُلب منه أن يسترحم عبد الناصر بعد صدور حكم الإعدام، فقال: "إن أصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية، ليرفض أن يخطَّ حرفا يُقرّ به حكم طاغية"، وقوله "لماذا أسترحم، إن سُجنت بحق فأنا أرضى حكم الحقّ، وإن سجنت بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل"!!"
كان سيّد يرى أن دَفْع حياته ثمنا لإيمانه ودفاعًا عن كلماته وأفكاره أمرا طبيعيا، بل هو ما يعطي لهذه الكلمات قيمتها ومعانيها وتأثيرها، فهو يقول "إنّ كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبّت فيها الحياة".
*
من ناحية ثالثة، كان سيّد من أبرز مفكّري القرن العشرين العرب المسلمين الذين كتبوا في التعبير عن عِزّة الإنسان وكرامته وحريته واستعلاء إيمانه ولو اتسع المقام لأتينا بعشرات الشواهد على ذلك فـ"الظلال" مليء بهذه المعاني. ولعلّ مقالته في "العبيد" في كتابه (دراسات إسلامية) من أروع ما كتب في فضح السلوك البشري المنحرف عن معاني الحرية.
*
*
أما الروح الإنسانية والتعبير العميق عن المعاني الإنسانية فهي من ناحية خامسة، من الجوانب التي أبدع فيها سيّد، ومن الجوانب التي طمسها خصومه (وربما بعض محبيه). ولعل كتيب "أفراح الروح" بالرغم من صفحاته المحدودة يرقى إلى مصافّ الأدب الإنساني العالمي الذي لم يلق ما يستحق من رعاية واهتمام من الأدباء والباحثين.. وبالرغم من أنه عبارة عن خواطر كتبها وهو في السجن، فإنك تقرأ لمفكر يُحلق في أوسع آفاق الحرية والكرامة الإنسانية، ومعاني الحب والعطف واستيعاب الآخرين ومخالطتهم والانفتاح عليهم والصبر على أذاهم.
*
"ظُلِم سيّد بسبب قيام محسوبين على بعض الاتجاهات السلفية بتكفيره، بناء على نصوص اجتزؤوها من كتاباته. وفي المقابل، عانى سيّد أيضًا من اتهامه بأنه يُكفِّر المجتمعات المسلمة، واستخدم متهموه وخصوصا من باحثين وكتاب علمانيين ويساريين ومن خصوم للتيار الإسلامي، نصوصا مجتزأة لإثبات ذلك"
من ناحية سادسة، فقد ظُلِم سيّد بسبب قيام محسوبين على بعض الاتجاهات السلفية بتكفيره، بناء على نصوص اجتزؤوها من كتاباته. وفي المقابل، عانى سيد أيضا من اتهامه بأنه يُكفِّر المجتمعات المسلمة، واستخدم متهموه وخصوصا من باحثين وكتاب علمانيين ويساريين ومن خصوم للتيار الإسلامي، نصوصا مجتزأة لإثبات ذلك. ولأن هذا المقال لا يتسع لمناقشة كل الاتهامات، فإننا نضع أبرز النقاط التي يجدر بيانها في هذا السياق:
1- يجب ملاحظة التطوّر التاريخي لالتزام سيد الإسلامي وفكره الذي أخذ شكله الناضج في السنوات الأخيرة من عمره، ومن الخطأ محاسبة سيد عن مرحلة تاب عنها أو عن أفكار تراجع عنها. وكما قال أخوه محمد قطب في رسالة بعثها إلى عبد الرحمن الهرفي، فإن سيد أوصى بقراءة بعض كتبه فقط قبيل وفاته، ومنها "في ظلال القرآن" وخصوصا الأجزاء الاثنا عشر الأولى التي تمكن من تنقيحها، وكتاب "معالم في الطريق"، و"هذا الدين"، و"المستقبل لهذا الدين"، و"خصائص التصور الإسلامي"، و"مقومات التصور الإسلامي"، و"الإسلام ومشكلات الحضارة".. وهو ما ينبغي محاسبته عليه، وليس ما تراجع عنه.
2- إنّ سيّد قطب كان أديبا ناقدا، قبل أن يكون عالما شرعيا وفقيها بالمعنى الاصطلاحي المتداول. وقد أراد أن ينافح عن الإسلام عقيدة وسلوكا ومنهج حياة. ودفع حياته ثمنا لذلك؛ وقد وفّقه الله في آلاف المواضع والشروح والمعاني الرائعة واللفتات القيِّمة.. ولربّما خانه تعبيره في بعض العبارات والاسترسالات.. لكن كثيرا منها يوضحها كلامه في مواضع أخرى.
3- إن العلماء الكبار لم يُكفِّروا سيد، بمن فيهم علماء الاتجاه السلفي.. ووقف بعضهم في وجه من كفَّر سيّد، كما فعل العلّامة بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجمع الفقه الإسلامي الدولي، وعضو هيئة كبار العلماء بالسعودية، في ردّه على ربيع المدخلي؛ حيث طلب منه عدم نشر اتهاماته لسيّد لكثرة ما فيها من التجنِّي عليه، مؤكّدا أن الواجب "الدعاء له بالمغفرة، والاستفادة من علمه..".
وفي الدراسة التي نال بها ماجد شبالة درجة الدكتوراه من جامعة صنعاء حول "منهج سيّد قطب في العقيدة"، توصّل إلى أنّ سيّد قطب كان موافقا لما عليه أهل السنة والجماعة في الفهم، وأن سيّد اهتمّ بالعقيدة وخصائصها، ونواقضها، وأنه نقض منهج مخالفي السلف الصالح من المتكلّمين والفلاسفة والمتصوّفة.. وأنّ كلامه المتوهم خطؤه، يقابله كلام واضح قاطع يوافق الفهم الصحيح كما في قضايا خلق القرآن ووحدة الوجود.. وغيرها.
4- إنّ سيّد قد بيَّن نواقض الإيمان التي يقرّرها الكتاب والسنة، مع اهتمامه الشديد بـ"شِرك الحاكمية" المرتبط بنبذ شرع الله، وتبني أيديولوجيات وتشريعات مناقضة للدين وتعاليمه، باعتباره أبرز أنواع الكفر في هذا العصر. وبالرغم من قوّة عبارات سيّد وحدَّتها في بعض المواضع، فإن من دَرَس كتابات سيّد من العلماء المنصفين، ومنهم العلّامة الشيخ عمر الأشقر (وهو ما سمعه كاتب هذه السطور منه) يذكرون أن كتابات سيّد لم تَحوِ نصا واحدا يُصرِّح فيه بتكفير المجتمعات والأفراد.. كما أنّ العدد الأكبر ممن خالط سيّد من رفاقه ينفون عن سيّد تهمة التكفير.
*
وأخيرا، فقد آن الأوان لإنصاف سيد قطب، وأن تُقرأ كتاباته بشكل موضوعي، وأن تحفظ مكانته باعتباره أحد أبرز رواد الفكر الإسلامي والتجديد في القرن العشرين.. رحمه الله.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة