متخصّصة في مناهج تعليم اللغة العربية، كاتبة في مجال التربية | باريس
الدِّين.. الخلق
اتَّبع المسلمون اليوم السُّبل، وانقلبت الموازين، وبعدوا عن تعاليم دينهم، ونسوا أنَّ الأخلاق الفاضلة هي قوام المجتمع، ومنبع الصَّلاح والفلاح ومفتاح العلوِّ. لأهمِّيتها جعلها الله تنبثق عن العقيدة الَّتي تحدِّد الفاضل من الرَّديء منها، وتوقظ في الفرد حواسَّ الخير، وتغرس المراقبة الدَّائمة الحافظة للإنسان من الرَّذائل. وقد لخَّص الرَّسول الكريم [ رسالته في قوله: ((إنَّما بعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق)) الإمام أحمد.
وأمَّهات الأخلاق ثابتة عبر الزَّمان والمكان، ومن شخص إلى آخر دون تمييز أو ميل مع الهوى والمنفعة.
والأخلاق شاملة لكلِّ حركات الإنسان على الأرض. وقد فصَّل الإسلام منهجاً كاملاً للسُّلوك القويم في كلِّ جوانب الحياة؛ حياة الفرد، الأسرة، المجتمع، العلاقة بالكائنات الحيَّة..
وأراد الله أن تكون أخلاق المسلمين متوازنة، فلا يحقُّ للمسلم أن يغفل عن خُلق أقرَّه الله، كأن يكون كريماً؛ وفي ذات الوقت ظالماً.. ثمَّ إنَّ للأخلاق أمَّهات وفروعاً.. ونحن اليوم نضخِّم الفرع ونصغِّر الأصل، ونتجاهل ما يتعارض مع مصالحنا الدُّنيويَّة.. أين نحن اليوم من الرَّعيل الأوَّل من المسلمين وأخلاقهم، أين زهد الأوَّلين وتواضعهم وحلمهم وجرأتهم وفطنتهم وحسن تحمُّلهم للمسؤوليَّات والأمانات الخاصَّة والعامَّة!؟..
وأخلاق الإسلام متناغمة مع احتياجات الإنسان المادِّيَّة والنَّفسيَّة بتوازن، على النَّقيض تماماً من الحداثة المعاصرة الَّتي تعيش اختلالاً كبيراً في هذا الاتِّجاه. والمتَّقون ليسوا بالملائكة ولا هم معصومون من كلِّ عيب (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا الله وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون).
وكذلك قرن اللّه العبادات بحسن الخلق كما في رحلة الحجّ (فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله). وسأل عليه الصَّلاة والسَّلام أصحابه: أتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ، وَلَا مَتَاعَ، قَالَ: "الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يَأْتِي بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُقْعَدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أَنْ يقْضَي مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَت عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)) الإمام أحمد.
من الخلق الحسن ما هو طبيعة في الإنسان، ومنه ما هو مكتسب عن طريق بذل الجهد وترويض النَّفس على الاستقامة (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).
والارتقاء إلى مكارم الأخلاق ليس سهلاً، فالصُّعود دائماً صعب، والسُّقوط لا يحتاج لبذل جهد، وخير سند لتحقيق مثل هذا الرُّقيِّ وصلُ القلب بالله وتذكُّر رقابته. فالإيمان قوَّة تدفع إلى حسن الخُلق وتقوِّم انحرافه. ولذا وجب أن نعمد إلى التَّربية السَّليمة منذ الصِّغر.. وتتجلَّى هنا قيمة العلم لتحقيق التَّربية الرَّشيدة، وكذلك أهمِّيَّة ترويض النَّفس على قبول النَّصيحة. وقد كان عمر ] يقول: "رحم الله مَن أهدى إليَّ عيوبي.." ويقول أيضاً: "من اتَّقى الله لم يشفِ غيظه، ومن خاف الله لم يفعل ما يريد.." فمراقبة النَّفس ومحاسبتها توقظ من الغفلة، وتمنعنا أن نفعل في السِّرِّ ما نستحي من فعله علناً. وإطلاق العنان للنَّفس يقود إلى الموبقات.. فالسُّقوط.. فالدَّمار.. كما هو الحال في المجتمعات المعاصرة.. غابت القدوة الحسنة اليوم من المجتمعات، وأفضل جهاد هو العمل على إحيائها، فالتَّربية بالقدوة أفضل الوسائل وأبلغها أهمِّيَّة. وخير أسوة الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام، عن أنس ] قال: خَدَمْتُ النَّبِيَّ [ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي: ((أُفٍّ))، وَلَا: ((لِمَ صَنَعْتَ))؟ وَلَا: ((أَلَّا صَنَعْتَ)) [البخاري]. وكان عليه الصَّلاة والسَّلام لا يغضب لحساب نفسه أبداً، وإن غضب فمن أجل إرساء الحقِّ.. ما أعظم رسول الله [!.. سَعْيُنا إلى التَّأسِّي بأخلاقه هو الَّذي سيحول بين ضعاف الأنفس والتَّجرُّؤ _ عن جهل أو عمد _ على ربط العنف
27 / 40
بتربيته السَّمحة الرَّشيدة، ويحبط جهود مَن يعمل على نسبة الإرهاب إلى المنهج السَّويِّ الَّذي أنزل عليه. منهج الحلم والرَّحمة، يجعل من عبادة الفرد عاملاً مساعداً لاكتساب الخُلق القويم. يقول الله تعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً، إِلَّا الْمُصَلِّينَ).
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن