علامات تعجب!!
قالت: وجدته وحيدا جائعا هزيلا! تلفتّ حولي يمنة ويسرة لعلي أرى له أما، أو أبا خالف فطرته وقرر أن يرعى ويحن، فلم يظهر أيّ منهما!
قلت له: أين أمك يا مسكين؟ ألك إخوة؟ أين ذهبوا وتركوك؟ أم أنت من تركهم وذهب فتاه؟
ثم، قررت أن أتابع السير، فوجدته يتبعني، وكأنه شعر بشفقتي ورحمتي!
أخذته وعدت أدراجي نحو المنزل، ووضعت له الحليب، فشرب بطريقة تفتقد الخبرة!
الجو بارد جدا أيها المحروم الصغير، ولن أستطيع إخراجك!
أبقيته ضيفا يشاركنا المسكن، وأخذ الجميع يهتم بطعامه ونظافته وحمايته.. لكنه انتكست صحته فجأة، وأخذ يموء مواء حزينا، ومات سريعا!!
تعجبت من حزني عليه لدرجة أني بكيته!
قلت مشفقة: ولم العجب يا صديقتي؟ إنها الرحمة التي وصف بها الله نفسه: الرحمن الرحيم!
الرحمة التي ذكرت في مقدمة كل السور القرآنية بعد البسملة – ما عدا سورة التوبة – لنتذكر دائما أن الله رحمن رحيم، وأنه علينا أن نرحم.
الرحمة التي وردت بمشتقاتها في القرآن الكريم أكثر من ثلاثمئة وخمس عشرة مرة!
الرحمة التي قال رسولنا في أهلها "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
الرحمة التي تكسب الأشياء زينة وجمالا فـ "ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه"!
فلا عجب ممن يرحم، بل العجب ممن لا يرحم! العجب ممن يقسو ويغلظ!
العجب من أب يعامل أبناءه بشدة وغلظة، فلا يتحدث معهم إلا لينتقد ويحاسب وينهى ويمنع ويزجر! الكلمة الطيبة ليست في قاموس مفرداته، والأبناء المساكين وأمهم يكادون لا يذكرون أباهم مبتسما، وليس له صورة في رؤوسهم إلا صارخا غاضبا عصبيا دون سبب ونادرا لسبب! العجب الأشد وهو يضربهم صغارا وكبارا.. ويهين والدتهم.. وهو يمنع عنهم ويبخل! العجب منه وهو لا يلتفت لمشاعرهم ولا يهتم لها ويعتبر أن الوقوف عندها أو الحديث فيها كلاما فارغا وتفاهة! لا يقبّل أحدا منهم وإن فعل فهم لا يتذكرون ذلك لأنهم كانوا صغارا جدا! والعجب أنه لا ينتصح ولا يستمع لأحد إن نوقش في ولد أو زوجة، وما ذلك إلا لأن له قلبا بلا رحمة، فكيف ينصت أو يستجيب؟!
كيف سيكون أبناؤك يا من قسوت ومنعت الرحمة؟ أعرفهم ورأيت عيّنات منهم: أبناء القساة، هم إما منطوون على أنفسهم لا يستطيعون التواصل مع الناس ولا يستمرون في وظيفة أو عمل، أوهم تعلموا الغلظة من معلمهم أبيهم فلم يرحموا أحدا ولا شيئا، وقليل منهم من أدرك أن لديه خللا في شخصيته، فبادر وحده بعلاج نفسه وجاهد في ذلك، وليته ينجح!
أحتاج علامة تعجب جديدة وكبيرة، لأتعجب من زوجة، أي: امرأة، أنوثة، رقة، وداعة، حنان ورفق.. خلقها الله لتكون كل الرحمة، لكنها، البعيدة عنها! فلا تهتم إلا لطلباتها وحاجاتها وراحتها ولو كان الثمن تعب الزوج نفسيا وصحيا وماديا! ولو كان الثمن أن ينشأ الأبناء في جو مخنوق بالخلافات!
أيتها الأم، ألن تتزوج ابنتك يوما؟ ألا تحبين لها السعادة في بيتها؟ إن لم تكوني قدوتها في الرحمة فستكون تلك الزوجة الأنانية القاسية، وعواقب ذلك غير مأمونة! حتى عواقبك أنت ليست مطمئنة، صدقيني!
اصطفي يا علامات التعجب، لتعجبي من قولي: أب رحيم وأم رحيمة، يعني أبناء وبنات وأزواجا وزوجات ومدراء ورؤساء وحكاما وملوكا رحماء، يرحمون كل من يعولون ويرعون! نعم، أب وأم عنوان لكل الناس بعدهما وكل الأشياء!
وليست الرحمة شيئا لا نقدر عليه، وليست شيئا سنبحث عنه وقد نجده أو لا نجده، الرحمة بيننا ومعنا وحولنا لأن الله عندما خلقها أكرمنا بجزء من مئة لنتراحم ونرحم الأهل والناس كافة والحيوان والجماد.
ومن يطلبها أو حرمها فالعلاج موجود، ألم يصف رسولنا صلى الله عليه وسلم علاجا للقسوة لذلك الرجل الذي اشتكى إصابة قلبه بها؟ قال له: "أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك، يلن قلبك وتدرك حاجتك". وقد جربت هذه الوصفة النفسية الرائعة، فوجدت شفقة ورحمة غمرتني، ومن المؤكد أنها وصلت لذلك اليتيم الصغير وشعر بها!
من يطلبها يجدها في الكلمة الطيبة والابتسامة الصادقة والتودد والسؤال عن أحوال الناس، ومساعدتهم ومعاونتهم، وحب الخير لهم وإيثارهم، وتقدير ظروفهم ومسامحتهم، والتجاوز عن هفواتهم وإعطاء الفرص لهم، والصبر على أذاهم، والاستماع لشكاواهم وقصصهم خاصة الضعفاء منهم، وأن يجعل أحدنا مكان أحدهم في مشكلته ويحلها له إن استطاع أو يتعاطف معه -على الأقل- ويدعو له ويتابع معه تطورات الأحداث، ويجلس مع الخدم والبسطاء ويشاركهم الطعام والشراب..
من يطلبها يجدها عندما يشفق على الحيوان، وحتى الجماد فلا يخرب ولا يتلف.. وعندما ونرحم أنفسنا، فنرعاها روحيا وصحيا وثقافيا..
باختصار، كلما مارسنا الرحمة، سنصبح أكثر رحمة!
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن