الأسرة بين الأمس واليوم
كان الابن فيما مضى يرتبط ارتباطاً شديداً بذويه طوال حياته، وكان هذا الارتباط يتجلى بعلاقة الأب بابنه منذ الطفولة حيث كان يتولى الإشراف على تعليمه العلوم الدينية والدنيوية، ثم يقوم بعد ذلك بتعليمه مهنته التي كانت متوارثة من جيلﹴ إلى آخر، أما الأم فإضافةً إلى اهتمامها به من الناحية العاطفية والتربوية فهي المسؤولة عن اختيار عروسه التي تشاركها السكن في بيت العائلة الكبير.
أما التقسيم الهندسي للبيت الكبير فقد كانت تراعى فيه الأحكام الشرعية الإسلامية التي تحرص على منع الاختلاط والحفاظ على حرمة النساء وحمايتهن من أعين المتطفِلين، وقد كان البيت في بعض المجتمعات ينقسم، إضافة إلى الغرف الخاصة بكل زوجين، إلى قسمين: رجالي ونسائي، أما القسم الرجالي فهو خاص بالذكور من أبناء الأسرة حيث يجتمعون فيه ويستقبلون زوّارهم، في حين أنّ القسم النسائي كان أعضاؤه أكثر عدداً حيث كان يضم، إضافة إلى الأم وبناتها العزباوات وزوجات أبنائها، النساء المطلَقات أو الأرامل داخل العائلة واللواتي تقع مسؤولية إعالتهن والنفقة عليهن على الذكور داخل الأسرة، وقد كان لهذا التضامن الأسري دوره الفعّال في التغلب على إحساس الوحدة والنبذ من جهة، وتأمين النفقة والحضانة للأولاد من جهة أخرى.
وقد كان لهذه الزيادة داخل الأسرة الواحدة أثره في إيجاد جو من التضامن والألفة داخل البيت، فكان الجميع يتعاون من أجل مصلحة أبناء هذا البيت الكبير، فالأعمال خارج البيت يقوم بها الرجال الذين لا تهمهم مصالحهم الشخصية على قدر ما تهمهم المصلحة العامة للأسرة التي يحرصون أن يحافظوا على اسمها وشرفها، أما الأعمال داخل البيت من خدمة وسهر على راحة أبناء هذه الأسرة فقد كان من اختصاص القسم النسائي التي تتولى السلطة فيه وإدارة شؤونه الأم حيث كانت الآمرة الوحيدة في هذا القسم، والتي يسعى الجميع لكسب ودّها ورضاها، وقد كان لهذا الجو التضامني في هذا القسم دوره المهم أثناء المرض والنكبات حيث تتعاون جميع النسوة في خدمة المريض وتطبيبه وتخفيف المسؤولية عن كاهل الشخص المسؤول مسؤولية مباشرة.
الأسرة حديثاً:
إن هذه الإيجابيات التي ذكرناها عن حال الأسرة الإسلامية سابقاً، لم تعد موجودة اليوم بعد التطور الكبير الذي طرأ على تكوين الأسرة والذي كان للتأثر بالنمط الغربيّ دوره الكبير في تغييره، وقد طال هذا التأثر البنية الخارجية للمنازل حيث استبدلت بالبيوت الكبيرة تلك الصغيرة التي يطلق عليها اليوم اسم ( بيوت السردين)، كما طال أيضاً التكوين الداخلي حيث تقلّصت هذه الأسرة ليقتصر عددها على الزوج والزوجة والأبناء الذين يتراوح عددهم بين ولد واحد وثلاثة أولاد في الغالب.
هذا وقد أدّى استقلال الأبناء عن أسرهم الكبيرة إلى نشوء حالات جديدة ساهمت في تفكُك الأسرة المعاصرة، وكان من نتائج هذا التفكك الأسري ما يلي:
1- غياب التضامن الذي كان موجوداً داخل الأسرة الكبيرة، حيث تخلّى كثير من الأبناء عن القيام بواجباتهم الأساسية في رعاية ذويهم عند الكبر أو العجز أو المرض، كما تخلى كثير من الأخوة عن القيام بواجباتهم تجاه أخواتهم المطلَقات أو الأرامل اللواتي يجدن أنفسهن متَهمات ومنبوذات من الآخرين، مما يضطرهنّ للعمل من أجل إعالة أنفسهن وأبنائهن اليتامى الذين وصّى بهم الله عز وجل بقوله:﴿وأما اليتيم فلا تقهر﴾.
2- غياب الصِلات الاجتماعية المعروفة سابقاً كصلة القربى والجيرة الحسنة اللتين وصّى بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فبات أبناء العم والخال لا يتزاورون إلا في مناسبات العزاء والفرح، حتى أن البعض منهم لا يعلم، بسبب الهجر أو الخصام، وجود أقرباء لهم يجب عليهم أن يصلوهم ويتواصلوا معهم، أما الجار فهو، إلا فيما ندر، لا يعرف إلا في الشكل أو الاسم... ولله درُ رسولنا الكريم عندما قال:"ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه".
3- الوحدة والملل اللذان يشعر بهما الزوجان بعد الزواج، ذ أن قرب الصِلة بالأهل والأقارب والمعارف التي كانت معروفة سابقاً كانت تلبّي حاجة الإنسان إلى الاجتماع والمؤانسة مع الآخرين وهو ما تفتقده كثير من الأسر اليوم، لذا كثيراً ما يتم التعويض عن هذا النقص بالانشغال بالعمل أو الاستعانة بالتلفاز المحلي والفضائي من جهة، أو يتم ذلك بإنشاء صداقات جديدة مبنية على علاقات أو مصالح شخصية لأحد الزوجين من جهة ثانية.
4- سوء تربية الأطفال من الناحية الصحية النفسية مقارنةً بين اليوم والأمس، إذ أن "الطفل الذي ينشأ ويترعرع في عائلة يلعب فيها تربوياً أكثر من رجل: دور الأب ( كالجد والأعمام) وأكثر من امرأة: دور الأم ( كالجدة والعمات) سوف تكون فرصة لأن ينمو جسدياً ومعرفياً وعاطفياً، لأن يكوّن شخصيته المستقلة ويكتسب المقدرة السلوكية على الاندماج الصحي في المجتمع، أكثر وأفضل من فرص الطفل المعتمد كلياً وحصراً على أب واحد وأم واحدة".
ما تقدم كان ملخصاً لواقع الأسرة بين الأمس واليوم، وإذا كانت بعض الباحثات أمثال فاطمة المرنيسي "تحاول في كتاباتها تشويه صورة الأسرة القديمة وتصوير علاقة الرجل والمرأة في تلك الفترة على أنها علاقة تسلُط وظلم فإن العدالة تستوجب من هؤلاء ومن كل باحث يسعى للوصول إلى الحقيقة عدم اعتبار تجاربهم الشخصية هي المقياس الذي من جرائه تبنى الأحكام على تاريخ الأمم.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة