حدود سايكس بيكو.. حبر على رمل
إن من طبيعة العقل البشري محاولته الدائمة لتطوير الإدراك، وذلك من خلال طرح التساؤلات ومحاولة الإجابة عليها، وعادةً ما تكون التساؤلات نابعة من ضبابية بعض المحسوسات وعدم وضوح ماهيتها وما أسباب وجودها بأشكال معينة. ومن هذا المنطلق، لطالما طال تفكيري في الأسئلة المتراكمة عن تلك الخطوط التي فصلت بين قلوبنا، بل فصلت قلب كلٍّ منا فجعلته ممزقًا تتناسله العواطف والمشاعرُ بألف اتجاه.
ماذا لو رُسمت تلك الخطوط بغير أماكنها؟ ماذا لو أنَّ الخط الحدودي الذي يفصل بين إربد ودرعا كان إلى الجنوب قليلًا؟ هل كانت اليوم إربد تحت سيطرة النظام السوري؟ أم تحت سيطرة الثوار؟ ماذا كان لو ارتبكت يد مارك سايكس وهو يرسم هذا الخط فذهب به إلى الشَمال قليلًا ليتجاوز درعا فيصبح خطًا يفصل بين مدينة درعا والسويداء؟ هل كانت الثورة لتنتقل إلى حمص وحماة وحلب ودمشق وإدلب؟ أم كانت انتقلت إلى عمان والكرك والزرقا والعقبة؟ ماذا لو كانت سيدي بوزيد في الجزائر لا في تونس؟ هل كان الربيع ليكون جزائريًا؟ وهل كان ليمتد إلى ليبيا ثم مصر فاليمن فسوريا؟ لماذا رسم المعتوه مارك سايكس هذه الخطوط بهذه الأماكن؟
تُرى ما هو الحديث والنقاش الذي جرى بينه وبين جورج بيكو في قاعة اجتماعهم في بطرس برغ؟ هل تجادلا أين يضعا كل خطٍّ بعناية؟ أم كانت النتيجة هي رسمٌ فقط دون مقدمات ودون دراسةٍ لكل مفصل؟ هل كانت مجرد حبرٍ على ورق؟ أم أصبحت حبرًا على رمل؟
الحبر الذي رُسم على الورق مُخطَّطًا يُمزِّقُ جسد الأمة، لم يَعُد مجرد حبرٍ على ورق، لقد أصبح منذ قرنٍ من الزمن واقعًا عين اليقين على الرمل
حِبْرٌ على ورق! نعم هذا ما اعتدنا سماعه عندما يُضرب المثل عن القرارت الغير نافذة أو المخططات والخطط التي تبقى حبيسة الاوراق ولا تخرج إلى الواقع، كمخططات وخطط الإصلاح التي تضعها حكوماتنا العتيدة في العالم العربي، ثم تموت في مهدها، هذا إن وُلدت من أصلها. أما الحبر على الرمل فهذا ما لم نعتد سماعه، لأن الحبر إذا انسكب على الرمل امتصه الرمل وذهب في أعماق الأرض، ثم تأتي الأمطار لتمحي أثره. نعم يا سادة أما الحبر على الرمل فهذا ما لم نعتد سماعه، لكننا اعتدنا العيش مقتنعين بأنه موجود وقائم عين اليقين.
الحبر الذي رُسم على الورق مُخطَّطًا يُمزِّقُ جسد الأمة، لم يَعُد مجرد حبرٍ على ورق، لقد أصبح منذ قرنٍ من الزمن واقعًا عين اليقين على الرمل، وأصبح المسلمون أشد الناس إخلاصًا لهذا الواقع المخالف لكل مشاعرهم المرتبطة والنابعة أصلًا من العقيدة التي يحملونها. لم يلبث هذا الحبر أن يتحول إلى حدود اعتبرنا ما بداخلها أوطانًا. أوطانًا أقرب ما تكون للحظائر، ثم وزعونا بداخلها كما توَزَّعُ الأنعام. إلا أن الأنعام أشد إخلاصًا وفهمًا لمشاعرها وانتمائها منا.
إن من أعجب تناقضات العقل البشري وانفصامه هو ما يمر به المسلمون اليوم وهم يعيشون في هذه الأوطان التي لا تعدو حبرًا على رمل. ذلك الإنسان الذي يؤمن إيمانًا غير قابل للنقاش بأن أولئك الذين يعيشون خلف تلك الخطوط اخوته، وإن لم يحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم ويتألم لألمهم فهو آثم، ما الذي يجعل انتماء ذلك الإنسان وإخلاصه بالكامل لذلك الحبر، لا للإيمان الذي يجمعه ويؤاخيه بهم؟ فكيف نشأ هذا الانتماء للوطن؟ وكيف أصبح يشاطر المسلمُ قلبه في انتماءه لعقيدته؟ قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان العرب عبارة عن قبائل متناثرة متناحرة، يغزو بعضها بعضًا فيقتاتون من أرزاق بعضهم، ويعتبرون غزو بعضهم وسبي نساء بعضهم من الشجاعة.
ثم جاء الإسلام ليغير وجه التاريخ ويحوِّل أولئك العرب أنفسهم إلى أصحاب حضارة فتحت العالم، وأصبح بموجب هذه العقيدة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم (كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه) وأصبح وفق هذا الشرع الإلهي (لأن تُهدم الكعبة حجراً حجراً أهون عند الله من أن يُراق دم امرئ مسلم) فكان هذا تاسيسًا للعلاقة والانتماء، كأول نظام اجتماعي في الدولة التي أنشأها لاحقًا نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة.
وما إن وصل النبي صلى الله عليه وسلم ونزل في المدينة حتى سن قانون التآخي بين المهاجرين والأنصار، معلنًا بذلك بداية مرحلةٍ وهي مرحلة وضع الأسس المتينة للدولة التي بقيت قائمةً لألفٍ وأربعمئة سنة على ذلك الأساس من التآخي بين المسلمين، والانتماء للعقيدة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. استمرت الدولة بالتوسع طيلة الحقبة التالية لوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، حقبة الخلفاء الراشدين ثم استمرت كذلك بالتوسع في الحقب التي تلتها حتى أصبحت الهند وخراسان في الشرق، والأناضول في الشمال، والأندلس في الغرب، أراضٍ من الدولة الإسلامية وسكانها من العجم مسلمون، انتماؤهم للعقيدة الإسلامية، ولهم ما لأي مسلم في الدولة وعليهم ما عليهم.
فإن هبَّ جيش الدولة لنجدة مسلمٍ أو مسلمةٍ أو للدفاع عن أرضٍ في أطراف الدولة لم يُستثنى أحدٌ من ذلك العمل، فكل المسلمين سواء، عربيٌ أو أعجمي، أبيض أو أسود، "فالمسلم أخو المسلم لا يَظلِمه ولا يُسلِمُه". بل وأكثر من ذلك تعاقب على الدولة الخلفاء من عربٍ وعجم، ولم تتغير تبعية المسلمين وطاعتهم لولي الأمر باختلاف أصله أو قوميته، فليس أصل أو قومية ولي أمرهم وسلطانهم هي التي تقف خلف طاعتهم له، لكنه الانتماء للعقيدة، لا للأوطان ولا القوميات، وطاعة واتباع الحارس القائم على هذه العقيدة، المطبق لهذا القانون الإلهي على عباده، مهما اختلف جنسه أو لونه، فهو بإسلامه يُسقط كل ما دون ذلك.
هذا كان حال المسلمين في ظل دولة العدل الإلهي المتصل منذ هجرة الرسول وحتى تهاوي دولتهم منذ ما يقارب القرن من الزمن. بالمقابل وبالتزامن مع العصور الذهبية للدولة الإسلامية كان يمر الغرب (أوروبا) بالقرون السوداء، كانت الحروب طاحنةً على أسس القوميات المختلفة، تلك الحروب التي أدت بنهاية المطاف لترسيم الحدود بين دول أوروبا، حدود رُسِمَت بالدَّم، لا بالحبر، فربما لا تجد لها أثرًا على الأرض، لكنها محفورةٌ بدماغهم، ومطبوعةٌ في نفوسهم.
ومع كل ما كان بين دول الغرب من خلاف سياسي، لم يمنعهم من توحيد جهودهم في محاربة دولة المسلمين، لأنها كانت خطرًا محدقًا يحيط بكل قومياتهم وعروشهم، ذلك أن هذه العقيدة تصهر كل من يعتنقها فيصبح انتماؤه للعقيدة لا لشيءٍ آخر، وهذا ما كان يهدد عروش ملوك أوروبا، فوصول الإسلام إلى أوروبا بالفتح يعني انهاء أنظمتهم وإقامة نظام الإسلام. ولأجل ذلك ومن أجل وقف تمدد دولة المسلمين توحدت جهودهم وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل هدمها.
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة