مواقع التواصل الاجتماعي وتأثيراتها السلبية على الصحة العقلية
كتب بواسطة راجي سلطاني
التاريخ:
فى : المقالات العامة
1319 مشاهدة
لم يُحدث اختراع بشري، أو تقنية بشرية، أو استحداث بشري في الآونة الأخيرة مثلما أحدثت وسائل التواصل الاجتماعي.
لقد صنعت ضجة حياتية قلّ نظيرها؛ وذلك لأنها وصلت للجميع ولم تستثن أحداً، فلم تكن اختراعاً أو استحداثاً خاصاً بالنخبة الثقافية أو الاجتماعية، وإنما كان للجميع نصيب فيها، المثقف والعامي، والغني والفقير، والكبير والصغير.
لقد تلقف الناس مواقع التواصل الاجتماعي بشغف، وكأنهم كانوا عطشى وكانت لهم الماء، أو غرقى وكانت لهم السفينة والنجاة، ولعل ذلك يرجع إلى المساحة التي أتيحت لهم في وسائل التواصل في التعبير عن الرأي بحرية، في ظل أنظمة قمعيّة منعتهم من ذلك في الواقع، أو لعلّهم رأوا فيها بديلاً افتراضياً لعلاقات إنسانية بعيدة عن علاقات الواقع المليئة بالتعقيدات والمشاكل، أو لعلّ مساحة الترفيه في هذه الوسائل كانت هي السبب الأقوى في الإقبال عليها، والشغف بها؛ ليُنسى بهذا الترفيه شيءٌ من الواقع المؤلم القاسي، أو لعلّه الشغف بالمعرفة والاطلاع، وهو شغف إنساني فطري أصيل، ولا توجد وسيلة للمعرفة في واقع الناس الآن مثل مواقع التواصل، فلقد أحدثت انفجاراً معرفياً كبيراً، نستطيع أن نسميه انفجاراً معرفياً بصرف النظر عن الجدل حول عمق هذا الانفجار المعرفي أو سطحيته.
لقد تلقف الناس مواقع التواصل الاجتماعي بشغف، وكأنهم كانوا عطشى وكانت لهم الماء، أو غرقى وكانت لهم السفينة والنجاة، ولعل ذلك يرجع إلى المساحة التي أتيحت لهم في وسائل التواصل في التعبير عن الرأي بحرية، في ظل أنظمة قمعيّة منعتهم من ذلك في الواقع
لكن الله سبحانه وتعالى قد جعل سنناً لهذه الحياة تحكم كل صغيرة وكبيرة فيها، ومن هذه السنن أنه يكاد لا يوجد شيء يحمل الخير المحض، ولا شيء يحمل الشر المحض، والبضاعة كلها مختلطة، فيها الفاسد والصالح.
ولمواقع التواصل الاجتماعي الكثير من المفاسد بجانب ما لها من إيجابيات ومصالح، ونستطيع بعد أن نتحدث عن ميزاتها ومساوئها أن نتحدث عن الموازنة بين هذه الميزات والمساوئ حتى نقول: إن ميزاتها أكبر من مساوئها، أو إن مساوئها أكبر من ميّزاتها.
وهنا نفصّل قليلاً في مساوئ مواقع التواصل على الصحة العقلية:
1- إضعاف الذاكرة:
العقل البشري يشبه إلى حد كبير أجهزة الحاسوب، حيث إن للعقل قوة تخزينية للمعلومات والمشاهد مثل ما لأجهزة الحاسوب، وهذه القدرة التخزينية (الذاكرة) قدرة محدودة وليست مطلقة، وفي حد معين يصل العقل البشري إلى ما يشبه الامتلاء والتخمة في مخزوناته، وهنا لا يستطيع أن يتقبل أية مخزونات أخرى إلا إذا مُسحت بعض مخزوناته الموجودة، وخصوصاً القديمة منها، وذلك كما يحدث في ذاكرة أجهزة الحاسوب والهواتف بالضبط.
ومواقع التواصل الاجتماعي أحدثت كما قلنا انفجاراً معرفياً، يتصفحها الفرد يومياً فيدخل إلى عقله آلاف المعلومات والصور والفيديوهات وغيرها، وهنا يصل العقل مع الوقت إلى الامتلاء والتخمة، فيبدأ في مسح بعض مخزوناته.
والمشكلة الأكبر هنا أن الكثير مما يُخزّن في الذاكرة من مواقع التواصل هو مما يمكن الاستغناء عنه، أو لا يستحق التخزين من الأساس ، فمواقع التواصل تتحدث في كل شيء وعن كل شيء.
2- تسطيح العقل:
في وسائل التواصل الاجتماعي يقرأ الناس لبعضهم البعض، كلٌّ يكتب في كل شيء، وتكاد مواقع التواصل أن تملأ على الناس حياتهم الثقافية والفكرية، فلا يرجعون معها إلى العلماء والمفكرين، بل يكتبون هم بأنفسهم في كل جديد، ويقرأون هم ما يكتبون، مما يكون له أكبر الأثر في تسطيح العقل.
لا مانع من أن يُدلي الناس بدلوهم في كل قضية، لكن الأمر يحتاج أولاً إلى تخصص حتى يكون الرأي معتمداً على أسس وأرضية علمية وفكرية، بدلاً من القول بالهوى، ويحتاج ثانياً إلى توثيق هذا الرأي بالمراجع والأصول ما أمكن.
مواقع التواصل جعلت من الجميع مفكرين وأصحاب رأي، وانزوى دور المفكرين الحقيقيين وأصحاب الرأي الحقيقيين في ظل كل هذا الضجيج والصخب.
مواقع التواصل جعلت من الجميع مفكرين وأصحاب رأي، وانزوى دور المفكرين الحقيقيين وأصحاب الرأي الحقيقيين في ظل كل هذا الضجيج والصخب
إن بعضاً من الناس قد انشغلوا بالقراءة والتحصيل على مدار أعوام وعقود، فأعطاهم ذلك قدرة طبيعية على التفكير والرأي، وهؤلاء هم من يستحقون أن يُتابعوا ويُقرأ لهم، وقد بات من الصعب التمييز التام بين هؤلاء وغيرهم من أهل الثقافة الضحلة والفكر المدّعى.
3- إضعاف القدرة على القراءة:
أية قدرة في هذا الوجود هي قدرة محدودة، ولا توجد قدرة مطلقة إلا عند الله الخالق القدير.
وكما تحدثنا عن القدرة المحددة للعقل البشري على التخزين في ذاكرته، فإنه كذلك محدود القدرة على الاستيعاب والفهم، فإذا ما شرع الإنسان في مشاهدة محاضرات علمية أو فكرية، فإنه سيقدر على الاستيعاب لفترات زمنية محدودة، لن يستطيع بعدها أن يستوعب شيئاً.
وكذلك في القراءة والاطلاع، فإن لكل منا قدرة يومية محدودة على القراءة والاطلاع، تختلف هذه القدرة من شخص لشخص، فتزيد هنا وتقل هناك، لكنها في النهاية قدرة محدودة لكل واحد.
تكون لواحد من الناس قدرة على القراءة تقدّر بخمسين صفحة يومياً -مثلاً-، فيستهلكها في متابعة المنشورات على مواقع التواصل، جملة من هنا وجملتين من هناك، ومقالة من هنا ومقالة من هناك، فإذا ما جُمعت معاً تبلغ عشرات الصفحات، فإذا ما أمسك كتاباً أو مرجعاً ليقرأ، لا يستطيع أن يقرأ إلا صفحات قليلة جداً، بعدما استهلك كل طاقته اليومية في القراءة على مواقع التواصل.
4- إغراق العقل وإنهاكه في الشأن السياسي العام:
فرق كبير بين متابعة الواقع والإلمام به، وبين إغراق العقل وإنهاكه من كثرة الانتباه له والتفكير فيه .
مواقع التواصل الاجتماعي هي في الأصل مواقع للتواصل وعقد الصداقات، ثم إنها طغى عليها تبادل المعلومات والآراء والتجارب الشخصية، إلا أن أغلب ما يشغل الناس ويشغل بالتالي مواقع التواصل (الشأن السياسي) للبلاد التي يعيشون فيها، بل للبلدان التي لا يعيشون فيها كذلك.
السياسة دائماً جذابة ومسيطرة، رغم ما لها من كلفة باهظة من التفكير العقلي والراحة القلبية وغيرها، لقد كانت مواقع التواصل هي الشرارة التي قُدحت في هشيم الأنظمة العربية في ثورات الربيع العربي، فمن مواقع التواصل بدأت الدعوات، وفي مواقع التواصل كان الإعداد والحشد، لكن الشأن السياسي العام لا يجب أن يشغل العقول إلى الحد الذي يصرفها تماماً عن كل ما عداه، وهذا ما تكاد أن تفعله مواقع التواصل.
فأين الشعر والأدب على مواقع التواصل، وما هي نسبة وجودهما بجانب الشأن السياسي؟
وأين الفكر والفلسفة على مواقع التواصل، وما هي نسبة وجودهما بجانب الشأن السياسي؟
وأين العلم الشرعي على مواقع التواصل، وما هي نسبة وجوده بجانب الشأن السياسي؟
5- تعويد العقل على الخطف السريع حتى العجز عن الصبر على الإطالة والتعمّق:
لقد عوّدت مواقع التواصل العقول البشرية على الإلمام السريع الخاطف بالمعلومات من هنا وهناك، وذلك لكثرة المعروض من هذه المعلومات في كل المجالات ، وكذلك لعرض هذه المعلومات في أقل الكلمات وأقصر الجمل، فالإيجاز من أهم سمات مواقع التواصل، وقد أصبحت المنشورات التي تطول لأكثر من ثلاث أو أربع جمل منشورات قليلة المتابعين قليلة التفاعل إلا ما ندر.
الإيجاز هو من أهم خصائص مواقع التواصل، ولا مكان فيها للمقالات المطوّلة إلا للنادرين من جمهور هذه المواقع، وإنه لمن الملاحظ أن كتّاب المقالات الطويلة التي ينشرونها في الجرائد والمجلات والمواقع المتخصصة، هم أقل الناس متابعة بجانب أولئك الذين ينشرون آراءهم على مواقع التواصل في جمل قصيرة وكلمات قليلة.
الزمن الذي نعيشه هو زمن السرعة والإيجاز في كل شيء، وقد عمّقت بشكل كبير مواقع التواصل ذلك في دنيا الفكر والثقافة والقراءة، فبتنا على أبواب زمان يُخشى أن يُلغى فيه الكتب، ثم تُلغى الدراسات والمقالات، ولا يبقى للناس إلا الآراء والخواطر التي تُنشر على مواقع التواصل، والتي تعد كلماتها على أصابع اليد.
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن