من هو البروفيسور فؤاد سزكين؟
كتب بواسطة عبد العزيز الإدريسي
التاريخ:
فى : تراجم وسِيَر
2565 مشاهدة
تداول كثير من النشطاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي يوم السبت 16 شوّال 1439هـ/ الموافق 30 يونيو2018م نبأ وفاة الأستاذ الدكتور فُؤَاد سَزْكِينْ، عن عمر يناهز 94 سنة، فمن يكون فُؤَاد سَزْكِينْ؟ وما هي أهم المراحل التي طبعت مسيرته العلمية والاجتماعية؟ وما هي أهم إسهاماته في الجانب العلمي والأكاديمي؟ وإلى أي حد استفاد العرب والمسلمون اليوم من تجربته وعطائه؟
هذا ما سنحاول تقديمه في هذه المقالة المقتضبة جدًّا حول هذه الشخصية الاستثنائية، معتمدين بالأساس على الكتاب الذي ألفه الأستاذ الدكتور عِرفان يِلْمازْ تحت عنوان: "مكتشف الكنز المفقود: فُؤاد سَزْكِينْ وجولة وثائقية في اختراعات المسلمين"[1].
المولد وطلب العلم:
وُلد الأستاذ «فُؤَاد سَزْكِينْ» في ولاية "بتليس" الواقعة شرقي الأناضول -تركيا- يوم 24 أكتوبر 1924م، وهي الولاية التي وُلد فيه العلامة المجدد بديع الزمان سعيد النورسي سنة 1877م، أتم دراسته الإعدادية والثانوية في محافظة "أرضروم"، وهي المحافظة التي وُلد في الأستاذ محمد فتح الله كولن سنة 1938م.
كان الطالب فؤاد يميل إلى الرياضيات والهندسة، فكان حريصًا على الالتحاق بكلية الهندسة، غير أن حضوره لندوة عليمة بقسم اللغة العربية في "جامعة إسطنبول" كان يلقيها المستشرق الألماني "هلموت ريتر Hellmut Ritter" جعله يُغير رأيه ومساره، بعد أن أُعجب بهذا المستشرق، فسلك طريق البحث في التراث والتنقيب في المكتبات والمخطوطات من أجل إظهار الكنوز العلمية الثاوية في تلك المخطوطات والبحث في تاريخ العلوم الإسلامية.
بدأ الطالب فؤاد يتردد على مكتبة السليمانية في إسطنبول رفقة أستاذه "ريتر" وقد استفاد من طباع هذا المستشرق شخصيته وصرامته المنهجية والعلمية، فقد كان "ريتر" يتقن ثلاثًا وثلاثين لغة، وعلى دراية عميقة ودقيقة بالمخطوطات النفيسة الموجودة في تركيا.
أعد الأستاذ "فُؤَاد سَزْكِينْ" رسالة الدكتوراه في تحقيق كتاب "مجاز القرآن" لمعمر بن المثنى، وأنهاها سنة 1951م، وقد نوه المستشرق "ريتر" بالعمل العلمي الذي قام به الطالب فؤاد وقتئذ.
وفي غضون ذلك اطلع الباحث " فُؤَاد سَزْكِينْ" على كتاب"تاريخ الأدب العربي" للمستشرق الألماني الشهير "كارل بروكلمان"، فلاحظ أن المؤلف لم يُشر إلا نادرًا إلى بعض المخطوطات الرائعة والمفيدة الموجودة في إسطنبول وسائر المدن التركية، والتي يعرفها بنفسه بحكم البحث والتنقيب، وفي سنة 1944 قرر فؤاد إتمام نواقص الكتاب.
في سنة 1949م سيغادر المستشرق "هلموت ريتر" مدينة إسطنبول التي قضى فيه قرابة الثلاثين عامًا، متوجهًا إلى فرانكفورت بألمانيا، فعبر لتلميذه فؤاد عن سر من الأسرار قائلا له: (كنتُ أشعر وكأنني مَلِك مكتبات هذه المدينة، والآن أتنازل لك عن عرشي، فكن على علمٍ تام بقيمته ...).
وفي سنة 1954م أصبح الأستاذ فؤاد سزكين أستاذًا مساعدًا بجامعة اسطنبول، فعمل على إنجاز مشروعه العلمي المتعلق بتدوين وتجميع تاريخ التراث العربي، من خلال التنقل بين مكتبات العالم من الولايات المتحدة الأمريكية غربًا إلى مكتبات الهند شرقًا، حيث اطلع في هذه المدة على أكثر من أربعمائة ألف (400,000) مخطوطة.
الهجرة من تركيا إلى ألمانيا:
بعد الانقلاب العسكري في 7 مايو 1960م، فُصل الأستاذ فؤاد سزكين من جامعة إسطنبول، بعد وشاية كاذبة ومغرضة، أدت بالعشرات من الأساتذة إلى الطرد من جامعاتهم، فاضطر الكثير منهم إلى مغادرة تركيا خصوصًا بعد انغلاق الأفق السياسي، والتضييق على الحريات الفردية والجماعية، فقرر الأستاذ فؤاد التوجه إلى جامعة فرانكفورت بألمانيا، مفضلًا إياها على جامعات أمريكية، ليبقى قريبًا من الشرق، ويصل رحمه العلمي مع المستشرق الألماني "ريتر"، غادر إسطنبول مضطرًا حزينًا، لكنه سلَّى نفسه بالحكمة الشهيرة: "الناس يظلمون ولكن القدر يعدل".
اشتغل البروفيسور فؤاد سزكين في الجامعات الألمانية: "فرانكفورت" و"ماربورج" مدرسًا لتاريخ العلوم، وفي سنة 1966 تزوج من شابة ألمانية أسلمت، تدرس الجغرافيا والعلوم السياسية، واسمها "أورصولا" رزقهما الله بنتًا اختار لها من الأسماء "هلال"، والتي وصفها والدُها بأنها عبقرية من عبقريات ألمانيا.
بعد رحلة طويلة من البحث والتنقيب والتدريس والمؤتمرات، استطاع البروفيسور فؤاد سزكين تحقيق حلمه وتأسيس المعهد العلمي سنة 1982م التابع لجامعة يوهان فولفجانج جوته في مدينة فرانكفورت، والغاية من هذا المعهد إجراء الدراسات والتعريف بالعلوم الإسلامية بكامل اتساعها. وقد استطاع المعهد أن يضطلع بدوره الحضاري في التعريف بالعلوم الإسلامية وإسهاماتها في تطور جميع فروع العلم المعاصرة من خلال المتحف الذي ضمَّ حوالي 800 قطعة من الآلات والاختراعات والوسائل والأدوات التي عرفتها الحضارة الإسلامية في مختلف ميادين المعرفة والعلوم، خصوصًا بعد ضمان الموارد المالية والأطر البشرية من خلال نظام الوقف الذي أُسس له.
أهم مؤلفات البروفيسور فُؤَاد سَزْكِينْ:
ترك الأستاذ فُؤَاد سَزْكِينْ تراثًا ضخمًا من الكتابات والمشاريع العلمية الخاصة بتاريخ العلوم الإسلامية والحضارة العربية، ومن أهم انجازاته:
1- العلم والتكنولوجيا في الإسلام، الذي يقع في خمس مجلدات، باللغة الألمانية، ثم تُرجم إلى اللغات الفرنسية والإنجليزية والتركية.
2- تاريخ الأدب العربي، والذي يقع في أربعة عشر مجلدًا، ويعتبر من أهم مؤلفات الأستاذ فؤاد، بل من أبرز المراجع في مجال العلوم الإسلامية.
3- معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فرانكفورت بألمانيا، وهو مؤسسة علمية أكاديمية متخصصة، تضم متحفًا للآلات العلمية التي حوتها الكتب التراثية العربية والإسلامية.
دروس وعبر من مسيرة البروفيسور فُؤَاد سَزْكِينْ:
لا شكَّ أن البروفيسور فُؤَاد سَزْكِينْ يعدُّ من الشخصيات العلمية والإسلامية الفريدة في تاريخ الأمة، وأن إسهاماته في خدمة العلم والحضارة الإسلامية، تحتمُ علينا الوقوف عند بعض ملامح هذه الشخصية التي يمكن أن تنير درب الأجيال الحالية والقادمة في ميادين العلم والمعرفة:
1- تقديسه لقيمة الزمن واحترامه للوقت: الأستاذ فؤاد كباقي العلماء الكبار ليس عنده وقت الفراغ، فهو شديد الحساسية فيما يتعلق بمسألة الوقت، وهذا مؤشر على أخلاق المسلم العالية. لقد قلتُ لربما جمع بين أخلاق المسلم وانضباط الألمان في مسألة تقديس الوقت، ومما حكاه عن أستاذه "ريتر": "كنت أتابع ندوات أستاذي عندما كنت طالبًا عنده، وبعد أن تعرفنا، ذهبت للمرة التالية لحضور ندوته متأخرًا ثلاث دقائق، فأخرج ساعته الذهبية من جيبه، ووجهها إليّ قائلًا: تأخرت ثلاث دقائق، يجب ألا يتكرر هذا مجددًا".
2- التواضع الجم والتصرف المثالي: كثيرٌ من الذي التقوا الأستاذ سزكين يندهشون لتواضعه الكبير، سواءً تعلق الأمر بالجانب العلمي أو العملي؛ فمما يحكيه الدكتور عرفان يلماز أن الأستاذ فؤاد إذا قرأ كتابًا ما، ولم يفهمْه فإنه لا يتهم صاحب الكتاب بالغموض والصعوبة، وإنما يبادر إلى قراءته مرات عديدة، ثم يتهم نفسه فيقول: "يبدو أنني لم أصل بعد إلى مستوىً يؤهلني لفهم هذا الكتاب".
3- القراءة مفتاح الحضارة: أكثرُ ما يؤلم البروفيسور سزكين هو انخفاض منسوب المقروئية في العالم الإسلامي، فلطالما عبر عن امتعاضه من بعض المسافرين الأتراك أو المسلمين الذي يراقبون الأرض من نوافذ الطائرة، أو يغطون في نوم عميق، بينما المواطن الألماني أو الأوربي منهمك في قراءة كتاب أو مجلة. ويؤكد الأستاذ فؤاد أنه لا نهضة لهذه الأمة إلا من خلال نشر القراءة ودعمها وتعميمها، وجعلها ثقافة وأسلوب حياة.
4- التمكن من اللغات شرطُ الحياة: إذا كان المستشرق "ريتر" قد تمكن من 33 لغة، فإن الأستاذ سزكين قد تمكن من 27 لغة، ولا شك أن التمكن من اللغات لا يأتي إلا بعد همة عالية ومكابدة مستمرة، وملكات قوية، ولذلك يستغرب الأستاذ فؤاد كيف يمكن أن تتطور الجامعات التركية مثلًا إذا لم يكن هناك إتقان للغات الحية كالإنجليزية والألمانية، فلا عمق ولاجودة في العملية التعليمية دون إتقان اللغات الحية، لذلك اقترحَ بناء جامعة في مدينة بورصة التركية تدرس اللغة الألمانية، لأن الولوج إلى مجال تاريخ العلوم الإسلامية لا يتأتى إلا من خلال معرفة اللغة الألمانية، لأن أهم الأبحاث والدراسات في هذا المجال كُتبت بالألمانية.
تجدر الإشارة إلى أن الأستاذ فؤاد تلقى عدة جوائز تقديرًا لما بذله في خدمة العلم والمعرفة على مدى سبعين سنة أو يزيد، وتلقى أوسمة كثيرة، منها وسام الشرف من الدرجة الأولى، ووسام الشرف التقديري الكبير من جمهورية ألمانيا الاتحادية، وميدالية جوته من مدينة فرانكفورت، وهو أول فائز بجائزة الملك فيصل العالمية في الدراسات الإسلامية عام 1978م، وهو عضو في الأكاديمية التركية للعلوم وأكاديمية المملكة المغربية ومجامع اللغة العربية بالقاهرة بدمشق وبغداد، والمدير المؤسس والشرفي لمعهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، بفرانكفورت بألمانيا.
غادرنا البروفيسور سَزْكِينْ إلى دار البقاء، وكانت جنازته مهيبة في مدينة اسطنبول حضرها الرئيس التركي رجب طيب أردغان ورئيس الوزراء يلدريم وجمعٌ غفير من العلماء والمحبين والمهتمين. وخلَّف البروفيسور ثروة علمية هائلة ومشروعًا أكاديميًا يفتح للأمة الإسلامية آفاقًا رحبة نحو المستقبل. رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته.
[1] - الأستاذ الدكتور عِرفان يِلْمازْ، "مكتشف الكنز المفقود فُؤَاد سَزْكِينْ وجولة وثائقية في اختراعات المسلمين"، ترجمة أحمد كمال، دار النيل للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2015.
المصدر : مركز نماء للبحوث والدراسات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن