عثمان بن عفان.. المجاهد المعطاء
كتب بواسطة د. علي الصلابي
التاريخ:
فى : تراجم وسِيَر
2176 مشاهدة
إن الرافد القوي الذي أثر في شخصية عثمان بن عفان رضي الله عنه وصقل مواهبه وفجر طاقته، وهذب نفسه هو مصاحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتتلمذه على يديه في مدرسة النبوة، ذلك أن عثمان رضي الله عنه لازم الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة بعد إسلامه كما لازمه في المدينة بعد هجرته؛ فقد نظم عثمان نفسه، وحرص على التلمذة في حلقات مدرسة النبوة في فروع شتى من المعارف والعلوم على يدي معلم البشرية وهاديها الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه؛ فحرص على تعلم القرآن الكريم والسنة المطهرة من سيد الخلق أجمعين.
وهذا عثمان يحدثنا عن ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: “إن الله عز وجل بعث محمدًا بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكنت ممن استجاب لله ولرسوله وآمن، فهاجرت الهجرتين الأوليين، ونلت صهر رسول الله، ورأيت هديه”[1].
لقد حصل لعثمان رضي الله عنه وللصحابة ببركة صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتربيتهم على يديه أحوال إيمانية عالية، ولقد تتلمذ عثمان رضي الله عنه على يدي رسول الله، فتعلم منه القرآن الكريم والسنة النبوية، وأحكام التلاوة وتزكية النفوس، قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].
وحرص على التبحر في الهدي النبوي الكريم خلال ملازمته رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته وسِلْمه، وقد أمدته تلك المعايشة بخبرة ودربة ودراية بشئون الحرب ومعرفة بطبائع النفوس وغرائزها، وفي السطور التالية سنبين بإذن الله تعالى بعضًا من مواقفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العهد المدني.
أولًا: عثمان رضي الله عنه في ميادين الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان عثمان رضي الله عنه من أعمدة الدولة الإسلامية، فلم يبخل بمشورة أو مال أو رأي، وشهد المشاهد كلها إلا غزوة بدر.
1- عثمان وغزوة بدر:
لما خرج المسلمون لغزوة بدر كانت زوجة عثمان السيدة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم مريضة بمرض الحصبة ولزمت الفراش، في الوقت الذي دعا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج لملاقاة القافلة، وسارع عثمان رضي الله عنه للخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه تلقى أمرًا بالبقاء إلى جانب رقية رضي الله عنها لتمريضها، وامتثل لهذا الأمر بنفس راضية وبقي إلى جوار زوجته الصابرة الطاهرة رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اشتد بها المرض، وطاف بها شبح الموت، كانت رقية رضي الله عنها تجود بأنفاسها وهي تتلهف لرؤية أبيها الذي خرج إلى بدر، ورؤية أختها زينب في مكة، وجعل عثمان رضي الله عنه يرنو إليها من خلال دموعه، والحزن يعتصر قلبه.
ودعت نبض الحياة وهي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولحقت بالرفيق الأعلى، ولم ترَ أباها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان ببدر مع أصحابه الكرام، يعلون كلمة الله، فلم يشهد دفنها صلى الله عليه وسلم، وجهزت رقية ثم حمل جثمانها الطاهر على الأعناق، وقد سار خلفه زوجها وهو حزين، حتى إذا بلغت الجنازة البقيع، دفنت رقية هناك، وقد انهمرت دموع المشيعين، وسوى التراب على قبر رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيما هم عائدون إذ بزيد بن حارثة قد أقبل على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل المشركين وأسر أبطالهم، وتلقى المسلمون في المدينة هذه الأنباء بوجوه مستبشرة بنصر الله لعباده المؤمنين، وكان من بين المستبشرين وجه عثمان الذي لم يستطع أن يخفي آلامه لفقده رقية رضي الله عنها.
وبعد عودة الرسول صلى الله عليه وسلم علم بوفاة رقية رضي الله عنها، فخرج إلى البقيع ووقف على قبر ابنته يدعو لها بالغفران.
لم يكن عثمان بن عفان رضي الله عنه ممن تخلفوا عن بدر لتقاعس منه أو هروب ينشده، كما يزعم أصحاب الأهواء ممن طعن عليه بتغيبه عن بدر، فهو لم يقصد مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفضل الذي حازه أهل بدر في شهود بدر طاعة الرسول ومتابعته، وعثمان رضي الله عنه خرج فيمن خرج مع رسول الله فردَّه صلى الله عليه وسلم للقيام على ابنته، فكان في أجَلِّ فرض لطاعته لرسول الله وتخليفه، وقد ضرب له بسهمه وأجره فشاركهم في الغنيمة والفضل والأجر لطاعته الله ورسوله وانقياده لهما.
فعن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: جاء رجل من مصر حج البيت فقال: يا ابن عمر إني سائلك عن شيء فحدثني أنشدك الله بحرمة هذا البيت، هل تعلم أن عثمان تغيب عن بدر فلم يشهدها؟ فقال: نعم، ولكن أما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته بنت رسول الله فمرضت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ» (صحيح البخاري؛ برقم: [3698]).
وعن أبي وائل، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: أما يوم بدر فقد تخلفت على بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لي فيها بسهم.
وقال زائدة في حديثه: ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بسهم فقد شهد. وقد عُد عثمان رضي الله عنه من البدريين بالاتفاق[2].
2- عثمان وغزوة أحد:
في غزوة أحد منح الله عز وجل النصر للمسلمين في أول المعركة، وأخذت سيوف المسلمين تعمل عملها في رقاب المشركين، وكانت الهزيمة لا شك فيها، وقتل أصحاب لواء المشركين واحدًا واحدًا، ولم يقدر أحد أن يدنو من اللواء، وانهزم المشركون، وولولت النسوة بعد أن كن يغنين بحماس ويضربن بالدفوف، فألقين بالدفوف وانصرفن مذعورات إلى الجبل كاشفات سيقانهن، ولكن مال ميزان المعركة فجأة، وكان سبب ذلك أن الرماة الذين أوكل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم مكانا على سفح الجبل لا يغادرونه مهما كانت نتيجة المعركة قد تخلوا إلا قليلًا عن أماكنهم، ونزلوا إلى الساحة يطلبون الغنائم لما نظروا المسلمين يجمعونها، وانتهز خالد بن الوليد قائد سلاح الفرسان القرشي فرصة خلو الجبل من الرماة، وقلة من به منهم فكرَّ بالخيل ومعه عكرمة بن أبي جهل، فقتلوا بقية الرماة ومعهم أميرهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه الذي ثبت هو وطائفة قليلة معه، وفي غفلة المسلمين، وأثناء انشغالهم بالغنائم أطبق خالد ومن معه عليهم، فأعملوا فيهم القتل، فاضطرب أمر المسلمين اضطرابًا شديدًا، وانهزمت طائفة من المسلمين إلى قرب المدينة منهم عثمان بن عفان ولم يرجعوا حتى انفض القتال، وفرقة صاروا حيارى لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، وفرقة ثبتت مع النبي صلى الله عليه وسلم، أما الفرقة التي انهزمت وفرت فلقد أنزل الله فيها قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155].
غير أن أصحاب الأهواء لا يرون إلا ما تهوى أنفسهم، فلم يروا من المتراجعين إلا عثمان رضي الله عنه، فكانوا يتهمونه دون سائر المتراجعين من الصحابة، وهل يبقى وحده؟ ولو فعل لخاطر بنفسه، وبعد أن عفا الله عن المتراجعين فالحكم واضح جليّ، لا لبس فيه ولا غموض، فلا مؤاخذة بعد ذلك على عثمان بن عفان رضي الله عنه، فيكفي أن الله عفا عنه بنص القرآن الكريم، وحياته الجهادية بمجموعها تشهد له على شجاعته[3].
3- في غزوة غطفان (ذي إمر)
ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وخرج في أربعمائة رجل ومعهم بعض الجياد، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه فأصابوا رجلًا منهم (بذي القُصَّة) يقال له جبار من بني ثعلبة، فأدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره من خبرهم، وقال: لن يلاقوك، لما سمعوا بمسيرك هربوا في رؤوس الجبال وأنا سائر معك، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأسلم، وضمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلال ولم يلاقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق كيدًا، وكانت غيبته إحدى عشر ليلة[4].
4- في غزوة ذات الرقاع
بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعًا من غطفان من ثعلبة وأنمار يريدون غزو المدينة، فخرج في أربعمائة من أصحابه حتى قدم صرارًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخلف على المدينة قبل خروجه عثمان بن عفان، لقي المسلمون جمعًا غفيرًا من غطفان، وتقارب الناس، ولم يكن بينهم حرب، وقد خاف الناس بعضهم بعضا، حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الخوف ثم انصرف بالناس، وقد غاب عن المدينة خمسة عشر يومًا[5].
5- في بيعة الرضوان
عندما نزل رسول الله الحديبية رأى من الضرورة إرسال مبعوث خاص من جانبه إلى قريش يبلغهم فيها نواياه السلمية بعدم الرغبة في القتال، وحرصه على احترام المقدسات، ومن ثم أداء مناسك العمرة، والعودة إلى المدينة، فوقع الاختيار على أن يكون مبعوث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قريش (خراش بن أمية الخزاعي) وحمله على جمل يقال له (الثعلب)، فلما دخل مكة عقرت به قريش، وأرادوا قتل خراش فمنعهم الأحابيش، فعاد خراش بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما صنعت قريش، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل سفيرًا آخر بتبليغ قريش رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقع الاختيار في بداية الأمر على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذهاب إليهم، وأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث عثمان مكانه، وعرض عمر رضي الله عنه رأيه هذا معززًا بالحجة الواضحة، وهي ضرورة توافر الحماية لمن يخالط هؤلاء الأعداء.
وحيث إن هذا الأمر لم يكن متحققًا بالنسبة لعمر رضي الله عنه، فقد أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بعثمان رضي الله عنه؛ لأن له قبيلة تحميه من أذى المشركين حتى يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أخاف قريشًا على نفسي، قد عرفت عداوتي لها، وليس بها من بني عدي من يمنعني، وإن أحببت يا رسول الله دخلت عليهم، فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، قال عمر: ولكن أدلك يا رسول الله على رجل أعز بمكة مني، وأكثر عشيرة وأمنع، عثمان بن عفان، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان رضي الله عنه فقال: «اذهب إلى قريش فخبرهم أنَّا لم نأتِ لقتال أحد، وإنما جئنا زوارًا لهذا البيت، معظمين لحرمته، معنا الهدي، ننحره وننصرف».
فخرج عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى أتى بلدح (مكان قريب من مكة) فوجد قريشًا هناك، فقالوا: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، يدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، تدخلون في دين الله كافة، فإن الله مظهر دينه ومعز نبيه، وأخرى تكفون ويَلِي هذا منه غيركم، فإن ظفروا بمحمد فذلك ما أردتم، وإن ظفر محمد كنتم بالخيار أن تدخلوا فيما دخل فيه الناس أو تقاتلوا وأنتم وافرون جامون، إن الحرب قد نهكتكم، وأذهبت بالأماثل منكم، فجعل عثمان يكلمهم فيأتيهم بما لا يريدون، ويقولون: قد سمعنا ما تقول ولا كان هذا أبدًا، ولا دخلها علينا عنوة، فارجع إلى صاحبك فأخبره أنه لا يصل إلينا، فقام إليه أبان بن سعيد بن العاص فرحب به وأجاره وقال: لا تقصر عن حاجتك، ثم نزل عن فرس كان عليه، فحمل عثمان على السرج وردفه وراءه، فدخل عثمان مكة فأتى أشرافهم رجلًا رجلًا؛ أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وغيرهما من لقي ببلدح، ومنهم من لقي بمكة، فجعلوا يردون عليه: إن محمدًا لا يدخلها علينا أبدًا.
وعرض المشركون على عثمان رضي الله عنه أن يطوف بالبيت فأبى، وقام عثمان بتبليغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المستضعفين بمكة وبشرهم بقرب الفرج والمخرج، وأخذ منهم رسالة شفهية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيها: اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم منا السلام، إن الذي أنزله بالحديبية لقادر على أن يدخله بطن مكة.
وتسربت شائعة إلى المسلمين مفادها أن عثمان قُتل، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى مبايعته على قتال المشركين ومناجزتهم، فاستجاب الصحابة وبايعوه على الموت سوى الجد بن قيس وذلك لنفاقه.
وفي رواية أن البيعة كانت على الصبر، وفي رواية على عدم الفرار، ولا تعارض في ذلك؛ لأن المبايعة على الموت تعني الصبر وعدم الفرار.
وكان أول من بايعه على ذلك أبا سنان عبد الله بن وهب الأسدي، فخرج الناس بعده يبايعون على بيعته، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات؛ في أول الناس، وأوسطهم، وآخرهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: «هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ» (صحيح البخاري؛ برقم: [3698])، فضرب بها على يده.
وكان عدد الصحابة الذين أخذ منهم الرسول صلى الله عليه وسلم المبايعة تحت الشجرة ألف وأربعمائة صحابي.
وقد تحدث القرآن الكريم عن أهل بيعة الرضوان، وورد فضلهم في نصوص كثيرة من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، منها: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:10].
وفي الحديبية ذكر المحب الطبري اختصاص عثمان بعدة أمور، منها: اختصاصه بإقامة يد النبي الكريمة مقام يد عثمان لما بايع الصحابة وعثمان غائب، واختصاصه بتبليغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مَنْ بمكة أسيرًا من المسلمين، وذكر شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بموافقته في ترك الطواف لما أرسله في تلك الرسالة، فعن إياس بن سلمة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع لعثمان إحدى يديه على الأخرى، فقال الناس: هنيئا لأبي عبد الله الطواف بالبيت آمنًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَوْ مَكَثَ كَذَا وَكَذَا مَا طَافَ حَتَّى أَطُوفَ» (المعجم الكبير للطبراني؛ برقم :[144]).
وقد اتهم عثمان ظلمًا بأنه لم يبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان وكان متغيبًا عنها، فهذه من الاتهامات التي ألصقت بعثمان في أحضان فتنة أريد بها تقويض أركان الخلافة خاصة. وعن أنس قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيعة الرضوان كان عثمان بن عفان بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة فبايعه الناس، فقال: إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله، فضرب بإحدى يديه على الأرض، فكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان خيرًا من أيديهم لأنفسهم[6].
6- شفاعة عثمان بن عفان في عبد الله بن أبي السرح في فتح مكة:
لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي السرح عند عثمان بن عفان، فجاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله بايع عبد الله، فرفع رأسه، فنظر إليه ثلاثًا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على الصحابة فقال: «أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلَهُ؟» فَقَالُوا: مَا نَدْرِي يَا رَسُولَ اللهِ مَا فِي نَفْسِكَ، أَلَا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ.
قَالَ: «إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ» (سنن أبي داود؛ برقم: [4359]).
وجاء في رواية: لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر، وقال: «اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ: عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ خَطَلٍ، وَمِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ» (المستدرك على الصحيحين؛ برقم: [2342]).
فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعد بن حارث وعمار بن ياسر فسبق سعد عمارًا، وكان أشب الرجلين فقتله، وأما عكرمة بن أبي جهل فركب في البحر فأصابتهم ريح عاصف، فقال أصحاب السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا ههنا، فقال عكرمة: والله لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص لم ينجني في البر غيره، اللهم لك عليَّ عهد إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده ولأجدنه عفوا كريما، فجاء وأسلم. وأما عبد الله بن سعد بن أبي السرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الباقي كما مر معنا.
وعن عبد الله بن عباس قال: كان عبد الله بن سعد بن أبي السرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأزله الشيطان فلحق بالكفار، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم الفتح، فاستجار له عثمان، فأجاره رسول الله.
وذكر ابن إسحاق سبب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل سعد وشفاعة عثمان فيه، فقال: وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه كان قد أسلم، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فارتد مشركًا راجعًا إلى قريش، ففر إلى عثمان بن عفان وكان أخاه للرضاعة، فغيبه حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأن الناس وأهل مكة فاستأمن له، قال ابن هشام: ثم أسلم بعد، فولاه عمر بن الخطاب بعض أعماله، ثم ولاه عثمان بن عفان بعد عمر[7].
7- غزوة تبوك
في العام التاسع الهجري ولي هرقل وجهه المتآمر صوب الجزيرة العربية متلمظًا برغبة شريرة في العدوان عليها والتهامها، وأمر قواته بالاستعداد وانتظار أمره بالزحف، وترامت الأنباء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فنادى في أصحابه بالتهيؤ للجهاد، وكان الصيف حارًا يصهر الجبال، وكانت البلاد تعاني الجدب والعسرة، فإن قاوم المسلمون بإيمانهم وطأة الحر القاتل وخرجوا إلى الجهاد فوق الصحراء الملتهبة المتأججة فمن أين لهم العتاد، والنفقات التي يتطلبها الجهاد؟ لقد حض الرسول على التبرع فأعطى كلٌّ قدرَ وسعه، وسارعت النساء بالحلي يقدمنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعين به في إعداد الجيش، بيد أن التبرعات جميعها لم تكن لتغني كثيرًا أمام المتطلبات للجيش الكبير، ونظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصفوف الطويلة العريضة من الذين تهيأوا للقتال وقال: “من يجهز هؤلاء ويغفر الله له؟” وما كاد عثمان يسمع نداء الرسول صلى الله عليه وسلم هذا حتى سارع إلى مغفرة من الله ورضوان، وهكذا وجدت العسرة الضاغطة (عثمانها المعطاء)، وقام رضي الله عنه بتجهيز الجيش حتى لم يتركه بحاجة إلى خطام أو عقال.
يقول ابن شهاب الزهري: قدَّم عثمان لجيش العسرة في غزوة تبوك تسعمائة وأربعين بعيرًا، وستين فرسًا أتم بها الألف، وجاء عثمان إلى رسول الله في جيش العسرة بعشرة آلاف دينار صبها بين يديه، فجعل الرسول يقلبها بيده ويقول: «مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ!» مَرَّتَيْنِ (جامع الترمذي؛ برقم: [4074]).
لقد كان عثمان رضي الله عنه صاحب القدح المعلى في الإنفاق في هذه الغزوة، وهذا عبد الرحمن بن حباب يحدثنا عن نفقة عثمان حيث قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحث على جيش العسرة، فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله، عليَّ مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله، عليَّ ثلثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فأنا رأيت رسول الله ينزل على المنبر وهو يقول: «مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذِهِ، مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذِهِ» (جامع الترمذي؛ برقم: [3700]).
وعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنهما قال: جاء عثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة، قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ويقول: «مَا ضَرَّ ابْنُ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ» يُرَدِّدُهَا مِرَارًا (مسند أحمد؛ برقم: [20961]) إنه يبدو وكأنه الممول الوحيد للأمة الجديدة، ومضى الرسول صلى الله عليه وسلم على رأس جيشه حتى وصلوا موطنا يدعى تبوك في منتصف الطريق بين المدينة ودمشق، وهناك جاءته الأنباء مبشرة بأن هرقل الذي كان يعد العدة للزحف من دمشق قد ثلم الله عزمه، وغادر دمشق نافضا يديه من محاولته اليائسة بعد أن علم بخروج النبي وأصحابه إليه، ورجع الجيش بكل عتاده الذي أمده به عثمان، فهل استرجع من ذلك شيئا؟ كلا.. وحاشاه أن يفعل، وقد ظل كما كان دومًا سريع التلبية لكل إيماءة من النبي صلى الله عليه وسلم تعني جديدًا من البذل، ومزيدًا من العطاء[8].
ثانيًا: من مساهماته الاقتصادية في بناء الدولة
كان عثمان رضي الله عنه من الأغنياء الذين أغناهم الله عز وجل، وكان صاحب تجارة وأموال طائلة، ولكنه استخدم هذه الأموال في طاعة الله عز وجل وابتغاء مرضاته وما عنده، وصار سبَّاقًا لكل خير ينفق ولا يخشى الفقر، ومما أنفقه رضي الله عنه من نفقاته الكثيرة على سبيل المثال ما يأتي:
1- بئر رومة
عندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد أن الماء العذب قليل، وليس بالمدينة ما يستعذب غير بئر رومة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ، فَيَجْعَلُ دَلْوَهُ مَعَ دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟» (جامع الترمذي؛ برقم: [3703]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَحْفِرْ بِئْرَ رُومَةَ فَلَهُ الْجَنَّةُ» (صحيح البخاري؛ برقم: [3556]). وقد كانت رومة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم لا يشرب منه أحد إلا بثمن، فلما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء، وكانت لرجل من بني غفار عين يقال لها رومة، وكان يبيع منها القربة بِمُدّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بِعْنِيهَا بِعَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ»، فقال: يا رسول الله، ليس لي ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتجعل لي فيها ما جعلت له؟ قال: «نَعَمْ »، قال: قد جعلتها للمسلمين، وقيل: كانت رومة ركية ليهودي يبيع المسلمين ماءها، فاشتراها عثمان بن عفان من اليهودي بعشرين ألف درهم، فجعلها للغني والفقير وابن السبيل (المعجم الكبير؛ برقم: [1226])[9].
2- توسعة المسجد النبوي
بعد أن بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده في المدينة، فصار المسلمون يجتمعون فيه ليصلوا الصلوات الخمس، ويحضروا خطب النبي صلى الله عليه وسلم التي يصدر إليهم فيها أوامره ونواهيه، ويتعلموا في المسجد أمور دينهم، وينطلقوا منه إلى الغزوات ثم يعودون بعدها، ولذلك ضاق المسجد بالناس، فرغب النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الصحابة أن يشتري بقعة بجانب المسجد لكي تزاد في المسجد حتى يتسع لأهله، فقال صلى الله عليه وسلم: “من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة؟” فاشتراها عثمان بن عفان رضي الله عنه من صلب ماله بخمسة وعشرين ألف درهم، أو بعشرين ألفًا، ثم أضيفت للمسجد، ووسع على المسلمين رضي الله عنه وأرضاه[10].
3- العسرة وعثمانها المعطاء
عندما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحيل إلى غزوة تبوك -كما ذكرنا- حث الصحابة الأغنياء على البذل لتجهيز جيش العسرة الذي أعده رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزو الروم، فأنفق الأموال من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلٌّ على حسب طاقته وجهده، أما عثمان فقد أنفق نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها[11].
المراجع
[1]- فضائل الصحابة لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: [1/597]، إسناده صحيح.
[2]- البخاري؛ برقم: [3698]. نساء أهل البيت، أحمد خليل جمعة، ص [491-504]. دماء على قميص عثمان بن عفان، دار البشير، ص [20]. كتاب الإمامة والرد على الرافضة، للأصبهاني، ص [302-304]. عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص [47].
[3]- الأمين ذو النورين، محمود شاكر، ص [49]. ذو النورين مع النبي، د. عاطف لماضة، ص [32].
[4]- الروض الأنف [3/ 137]، الطبقات لابن سعد [2/ 34-35].
[5]- الأمين ذو النورين، محمود شاكر، ص: [52-53].
[6]- غزوة الحديبية لأبي فارس، ص: [83]. المغازي، محمد عمر الواقدي [2/ 600]. زاد المعاد [3/ 290-291]، السيرة النبوية لابن هشام [3/ 344]. البخاري؛ برقم: [4169]. مسلم؛ برقم: [1485]، [1856]. سنن الترمذي؛ برقم: [3702]. فتح الباري [7/ 443]. الرياض النضرة في مناقب العشرة، ص [490-491]. ذو النورين مع النبي، ص [32]. سير السلف الصالحين [1/ 181]. السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، مهدي رزق الله أحمد، ص: [482-486]. صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي، ص: [404].
[7] السيرة النبوية لابن هشام: [4/ 57، 58]. الصارم المسلول على شاتم الرسول، ص: [109]. أضواء البيان في تاريخ القرآن، صابر أبو سليمان، ص: [79-80].
[8] فتح الباري [7/ 67]، خلفاء الرسول، ص: [138، 250]، العشرة المبشرون بالجنة، محمد صالح عوض، ص: [31-53]. سنن الترمذي؛ برقم: [3700، 3702، 3785]. صحيح التوثيق في سيرة وحياة ذي النورين، مجدي فتحي السيد، ص: [26]. السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص: [615].
[9] صحيح النسائي للألباني [2/ 766]. أخرجه البخاري رقم: [2778] معلقا، وهو صحيح لشواهده. تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي [10/ 196]. فتح الباري [5/ 408]، الحكمة في الدعوة إلى الله، سعيد القحطاني، ص: [231].
[10]- صحيح سنن الترمذي للألباني [3/209]، رقم: [2921]. صحيح سنن النسائي [2/ 766]. أعلام المسلمين لخالد البيطار [3/ 41].
[11]- الحكمة في الدعوة إلى الله، ص: [231].
المصدر : البوصلة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة