دروس غالية ومواقف رائعة
هذه الغزوة:
هي إحدى الغزوات التي خاضها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. وكان من أمرها أن زعماء قريش أرادوا الثأر لقتلاهم في غزوة بدر فجمعوا الجموع لقتال المسلمين. ولمّا بلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه وخيّرهم في التأهب لملاقاة العدو أو البقاء في المدينة فإن دخلوا عليهم قاتلوهم. ففضل عدد منهم البقاء وكذلك اتخذ المنافقون وعلى رأسهم عبد الله بن أبيّ بن سلول هذا الموقف أما بقية الصحابة فقد آثروا القتال وخصوصاً أولئك الشبّان الذين لم ينالوا شرف القتال في غزوة بدر وهكذا كان.
وفي السابع من شوّال لسنة ثلاث من الهجرة خرج النبي ﷺ ميمِماً قتال قريش. وفي الطريق انخذل عنه المنافق عبد الله بن أبيّ بن سلول بثلث الجيش وعامتهم من شيعته وأصحابه وكرّ راجعاً بهم وهو يقول:"عصاني- يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم- وأطاع الولدان ومن لا رأي له!! وما ندري علام نقتل أنفسنا"؟
ثم إن النبي بعدما عسكر وأصحابه في شعبﹴ من "أحد" بدأ ينظم الجيش، فجعل ظهور المسلمين إلى "جبل أحد" واستقبلوا المدينة، وجعل على الجبل خلف المسلمين خمسين رامياً، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير وقال لهم:"قوموا على مصافّكم هذه فاحموا ظهورنا فإن رأيتمونا قد انتصرنا فلا تشركونا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا".
وخاض المسلمون الحرب وقاتلوا بضراوة حتى أيّدهم الله بنصره وهزم المشركين الذين فرّوا لا يلوون على شيء وتبعهم المسلمون يقتلون ويغنمون. وهنا اختلف الرماة على الجبل: هل يشاركون أصحابهم بالغنائم أم ينتظرون أمر الرسول بإخلاء الجبل؟ وما هو إلا أن استقر رأيهم على الإخلاء فانطلقوا ولم يثبت منهم إلا قائدهم عبد الله بن جبير مع عدد يسير قائلاً:"لا أجاوز أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم". ورأى خالد بن الوليد، وكان ما يزال مشركاً، خلاء الجبل وقلة المدافعين فكرَ راجعاً بالخيل وتبعه عكرمة فقضوا على أهل الجبل وقائدهم وهجموا على المسلمين من الخلف فانهزموا ودبّ الرعب في قلوبهم وتفرّقت جهودهم فصاروا يقاتلون على غير رشدﹴ ولا هدى.
* أضواءٌ على الأحداث:
في هذه الغزوة دروسٌ دعوية، ومواقف تربوية، وسنن ماضﹴ حكمها إلى يوم القيامة. وقد ارتأينا الوقوف عند أبرز هذه الدروس لربطها بواقعنا الحالي.
* سنة الابتلاء وظاهرة النفاق:
ما أشبه الأمس باليوم الذي تتعرض فيه الدعوة الإسلامية في كل مكان للفتن والمحن والابتلاءات والضغوط كي تملّ وتنحرف عن خطّها المستقيم. وهذه سننٌ فرضها الله على عباده المؤمنين:﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضرّاء وزلزلوا حتّى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إنّ نصر الله قريب﴾[البقرة:214]. إذاً فما هذه المحن إلا خير للدعوة الإسلامية إذ أن ذلك مدعاة لتبيين النوايا الصادقة التي لا يخشى أصحابها أحداً إلا الله:﴿الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل* فانقلبوا بنعمةﹴ من الله وفضلﹴ لم يمسسهم سوءٌ واتّبعوا رضوان الله والله ذو فضلﹴ عظيم﴾[آل عمران: 173-174]، ولكشف نفاق المنافقين المنخرطين في صفوف الدعوة ابتغاء مصالح شخصية،تماماً كما وضح موقف رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول وشيعته الذين انسلخوا عن المسلمين في أول محنةﹴ تعرضوا لها. وما ظنُنا في أناسﹴ ينضمون للإسلام طمعاً فقط في مغانمه؟ إن الإسلام لا يخسر بانخذال أمثال هؤلاء عن أهله:﴿فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا؟ أتريدون أن تهدوا من أضلَ الله﴾[النساء:88]. فالدعوة بحاجة من وقت لآخر إلى تنقية الصفوف من أمثالهم.
فالابتلاءات- إذاً- التي تصيب المؤمنين ما هي سوى رعاية من الله لهم إذ أنهم يجهلون ما يعتمل في النفوس من أحقاد تريد إفراغ سمومها في حقول الدعوة الإسلامية.
* من نتائج الفرقة والتفكك:
رأينا أن عمق الإيمان بالله تعالى والجهاد في سبيله وحده لا لنيل أيٍ من حظوظ الدنيا، ثم الوحدة وتراصّ الصفوف وعدم نقد أوامر القائد صلى الله عليه وسلم كلها عوامل كانت طريقاً نحو النصر المبارك. ولاحظنا بعد ذلك كيف أم الموازين قد انقلبت. فعندما تمكّنت حظوظ النفس من القلوب وغلب عليها الهوى أدّى الأمر ببعضﹴ منها إلى تناسي أوامر القائد صلى الله عليه وسلم وإلى تفرق الصفوف والجهود وبالتالي إلى الهزيمة التي منوا بها والتي كانت درساً قاسياً لهم وعبرة لمن بعدهم. لقد أدّبهم الله وهزمهم بخطأ صدر عن فئة قليلة منهم فعاد بالوبال عليهم جميعاً، فكيف بنا والمعاصي والذنوب محدقة بنا من كل جانب؟ فما أعظم رحمته تعالى بنا إذ يهلكنا جميعاً بما كسبت أيدينا. وهكذا فقد نصرهم الله عندما كانوا جميعاً يقاتلون على قلب رجلﹴ واحد، أما ما دون ذلك فلا نصر.
هذا نتيجة تفرّق بضع ساعات... فمن أين يأتينا نصر الله وقد قضينا أعواماً بل دهوراً من الزمن ولا زلنا مختلفين متفرقين مشتتي القوى نكنّ الضغائن والأحقاد في نفوسنا ويعمل بعضنا على تكفير بعض فأين نحن من كلامه صلى الله عليه وسلم:"لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تناجشوا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا"؟
كلُنا متفرِق، كلُنا مختلف، كلُنا يظن نفسه الناجي من سخط الله، وكلّنا يشكو يعضنا بعضا:
وما شكواي أو شكواك إلا لفوضى في المجامع وانقسام
ترى كلاً له أملٌ وسعيٌ وما لاثنين حولك من وئام
لكل جماعة فينا إمامٌ ولكن الجميع بلا إمام
نهدِم بنياننا بأيدينا ونشكو بعدها من الأنقاض، نبكي الظلم الذي حلّ بأمّتنا وما علمنا أننا الظالمون... ﴿وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾، نخشى عاقبة طريق التشرذم ولكنّا ماضون على دربه:﴿وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبﹴ ينقلبون﴾. وفي نهاية الأمر سيكون كلُ راعﹴ مسؤولاً عن رعيته يوم القيامة، وكلُ قائد مسؤولاً عن أفراد دعوته...:﴿وقفوهم إنهم مسؤولون﴾.
والنتيجة: اقتلاع شوكة الإسلام بتداعي الأمم علينا كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. وواضحٌ نه ستبقى الشعوب الإسلامية مغلوبة على أمرها من قبل البغاة والطغاة ما دامت بعيدة عن شرع الله المستقيم. فحسبهم في حالهم المذلّ قول الشاعر:
طال المنام على الهوان فأين زمجرة الأسود
واستنسرت عصب البغاث ونحن في ذلِ العبيد
قيد العبيد من الخنوع وليس من زرد الحديد
فمتى نثور على القيود متى نثور على القيود
* صورٌ رائعة عن معاني التضحية والفداء:
في قلب المعركة، وبعدما أحيط بالمسلمين، نرى هناك مجموعة من الجنود الأفذاذ متحلقين حول قائدهم صلى الله عليه وسلم يذبّون عنه ويقدمون نحورهم دون نحره صلى الله عليه وسلم، وهاكم بعضاً من تلك المشاهد:
روى البخاري أنه لما كان يوم أحد، انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوّبٌ عليه (أي مترِس نفسه عليه) بجحفة له (أي ترس من جلد)، وكان أبو طلحة رجلاً رامياً شديد النزع. يشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة:"بأبي أنت وأمي، لا تشرف، يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك".
وهذا أبو دجانة قد ترّس نفسه دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والنَبل يتلاحق في ظهره وهو منحنﹴ على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتحوّل عنه. وترّس زياد بن السّكن نفسه دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل هو وخمسة من أصحابه، وكان آخرهم- على ما رواه ابن هشام- عمارة بن يزيد بن السكن، فقاتل دونه عليه الصلاة والسلام حتى أثقلته الجراح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أدنوه مني"، فوسّده قدمه، فمات وخدُه على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه:"من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء هو أم في الأموات"؟ فقال رجل من الأنصار:"أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل سعد". فنظر، فإذا هو جريح في القتلى وبه رمق. فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر لأفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ فقال: أنا في الأموات، فأبلغ رسول الله عني السلام، وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم ﷺ وفيكم عينٌ تطرف. قال الأنصاري:"فلم أبرح حتى مات".
هذا وقد عبّر الحضور النسائي الفاعل في هذه الغزوة عن أن الإسلام رفع من شأن المرأة عالياً وهي نفسها فهمت حقيقة هذه المكانة. فهذه نسيبة بنت كعب بن عوف رضي الله تعالى عنها وأرضاها المعروفة بأم عمارة الأنصارية تقاتل في هذه المعركة قتال المستميت تتلقى عن الرسول الضربات والطعنات وتردها على المشركين حتى قال صلى الله عليه وسلم:"ما التفتُ يميناً ولا شمالا ًإلا وأنا أراها تقاتل دوني". وقد جرحت ثلاثة عشر جرحاً، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولولدها فقال:"بارك الله عليكم أهل البيت"، فقالت:"ادع الله يا رسول الله أن نرافقك في الجنة"، فقال:"اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة"، فقالت أم عمارة: ما أبالي ما أصابني من الدنيا بعد هذا الدعاء!
أما عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما وأم سليم فقد كانت وسط احتدام المعركة تنقلان القرب على متونهما تفرغانها في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان، فتفرغانها في أفواه القوم، وكانت أمّ سليط تزفر- أي تستقي- لهما القرب.
***
لقد سطّرت "أحد" عبر التاريخ مواقف للصحابة لم يشهد لها مثيل في تاريخ الحروب، ولا عجب فإنه الإيمان الخالص الذي جعل منهم متراساً للدعوة المتمثلة به صلى الله عليه وسلم فكانوا- أنفسهم- مصداقاً لقوله تعالى:﴿لن تنالوا البرَ حتى تنفقوا مما تحبّون﴾، وهل هناك من شيء أحبّ إلى الإنسان من نفسه التي بين جنباته؟! فأنفقوها بسخاء، وكانوا يتساقطون الواحد تلو الآخر تحت وابل النِبال يستقبلون الموت الزؤام بنشوةﹴ عارمة أعظم من نشوة الكفار بنصرهم.
هم ضحّوا بنفوسهم ويأبى معظمنا اليوم أن يضحّي بتبليغ آية أو بإنفاق درهم في سبيل الله جلّ وعلا.
وختاماً أودّ أن أنهي كلامي هذا بإعادةﹴ لمقالة سعد بن الربيع التي وصّى بها وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة مع تغييرﹴ في الصيغة:"فإنه لا عذر لنا بعد اليوم إن خلص إلى نبينا الكريم- صلوات الله وسلامه عليه- وفينا عينٌ تطرف" فإن سأل سائلٌ كيف يكون ذلك؟ أقول: يكون بتحريف سنّته صلى الله عليه وسلم والحيد عن نهجه المستقيم، والركون إلى الدنيا وكراهية الموت. يكون بتهدّم بنيان الإسلام الذي بناه صلى الله عليه وسلم، وكلُ ذلك قد كان. والآن لم يعد لنا عذرٌ واحد نعتذر به إلى الله وقد صال الظلم بيننا وجال، لم يعد لنا عذرٌ وقد دبّت الفرقة بيننا... لم يعد لنا عذرٌ واحد حتى نعود إلى الله قبل فوات الأوان.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن