ثقافة الادخار: سبيل الشعوب المنهوبة لمواجهة السنوات العجاف
سُئل دليلٌ من أدلاء الإسكيمو أثناء إحدى الرحلات: «فيم تفكر»؟ فكان جوابه: «ليس لديّ ما يدعو إلى التفكير لأن لديّ مقداراً كافياً من اللحم».
تلك النظرة الاقتصادية التي لا تجاوز النظر إلى موضع القدمين، إحدى الآفات التي تلبست بها مجتمعاتنا حكامًا ومحكومين، جماعات وفرادى، فانعدمت في قطاعات كثيرة رؤية إعداد العدّة للغد وللزمن الصعب، حتى تسمع في بعض الشعوب عبارة «أصرف ما في الجيب، يأتيك ما في الغيب»، مع أن الإنسان إذا اقتصد وادّخر وعمل حسابًا للمستقبل سيأتيه كذلك ما في الغيب.
هي تلك النظرة إلى المال على أنه نعمة الوقت الحالي، ومن ثم يتمرغ صاحبه في الثراء ويعيش لحظته، فلماذا يخرج إلى وادي الهموم وصفرة الغم بالتفكير في الغد والاستعداد له، حتى إذا ما جاءت الأزمات والشدائد طاش عقله وفقد صوابه.
عندما داهمت السنوات العجاف أرض مصر في زمن نبي الله يوسف، عليه السلام، بنى رؤيته الاقتصادية لمواجهة الشدة والمجاعة المقبلة على الادخار، استعدادًا للمستقبل، فقال بعد أن فسر لهم رؤيا الملك «فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ» (يوسف: 47).
فهو يرشدهم إلى ما يعتمدونه في سنين الرخاء السبع من عدم الإسراف واختزان الحبوب في سنابلها لتكون أبعد عن إسراع الفساد إليها، إلا بالمقدار الذي يأكلونه حتى ينتفعوا به في الشدة. والنبي محمد صلى الله عليه وسلم كان يحبس لأهله قوت سنة، كما جاء في صحيح البخاري، وعندما زار النبيُّ، سعدَ بن أبي وقاص وهو مريض عام حجة الوداع، قال له يا رسول الله إني بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ فقال له: لا، قال: فالشطر؟ قال: لا، قال: فالثلث يا رسول الله؟ قال: الثلث، والثلث كثير، ثم قال: إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس. فالادخار لا يتنافى مع التدين والتوكل على الله وعدم الوقوع في أسر المال، فالنظام الإسلامي في جميع تشريعاته يراعي الفطرة البشرية واحتياجات الناس، وما فيه صلاح دنياهم كما صلاح آخرتهم، فطالما أن الإنسان يؤدي حق الفقير فيه، ويتخذه قربة لربه، فلا يلام على نظرته إلى الغد واتخاذ الحيطة لأيام الشدة والأزمة.
لكن هكذا الشأن عندما يبتعد المسلمون عن تعاليم دينهم وفهمه الصحيح، فيأتون بما يكون حُجة لمخالفيهم، وذريعة لاتهام المسلمين بالهمجية والتخلف والرجعية وضعف التفكير، يسيئون للمنهج الذي نأوا عنه.
وقد ظهر هذا التوجه منذ وقت بعيد، فهذا المؤرخ ابن العماد في كتابه «شذرات الذهب»، يعقد مقارنة بين الخليفة العباسي المنصور، وولده المهدي الذي تولى الخلافة من بعده من جهة الإنفاق، فيقول: «يقال إن المنصور خلف في الخزائن مئة ألف ألف وستين ألف ألف درهم (160 مليونا) ففرقها المهدي، ولم يل الخلافة أحداً أكرم منه ولا أبخل من أبيه».
فيعجب المرء للمؤرخ الذي يصف الخليفة المتعقل الذي يدخر المال العام في خزائن الدولة بالبخل، ووصف من وزعها جميعها بالكرم، ولو كان هذا المال خاصًا به لقلنا، رجل جواد ينفق ما لديه على الفقراء والمساكين ابتغاء مرضاة الله، وإن لم يستبق لنفسه منه شيئا فلا تثريب عليه، لكنه يفرغ خزينة الدولة التي تحتاج لإقامة مشروعات تخدم الشعب وتقوم على مصالحه.
وإنني إذ أشير إلى ثقافة الادخار والنظرة المستقبلية لتوظيف المال والانتفاع به، فلا أريد بها الحكومات والأنظمة، فهي قد دأبت على تبديد الثروات وإنفاقها على المظاهر الجمالية والترفيهية، وتركت كثيرا من أبناء شعوبها لسطوة الفقر والمرض والجهل، فإذا ما داهمت البلادَ أزمةٌ اقتصادية، حمّلها الحكام على الرعية وأرهقوها بغلاء الأسعار وزيادة الضرائب. لكنني أتوجه بالحديث عن ثقافة الادخار وترشيد الاستهلاك والتأهب لما قد يأتي به المستقبل من شدائد، إلى جماهير الأمة الذين يدفعون الثمن دائمًا.
في الدول المتقدمة يتبعون ثقافة بعيدة جدا عنا، فكثير منهم يحدد ما يريد أن يدخره من الدخْل أولًا، ثم يوظف البقية لتلبية احتياجاته، بينما ننفق نحن ثم ننتظر ما يفيض عنا لكي ندخره، هذا إن ادخرنا بالفعل. وحتى السلوك الشرائي مختلف لديهم، فهم يشترون عادة ما يحتاجون من الأطعمة – على سبيل المثال – بعدد أفراد الأسرة وبناءً على القيمة الغذائية، بخلاف سلوكنا الشرائي المبني على التوسعة المفرطة. النظرة للمستقبل والتأهب للشدائد والأزمات الاقتصادية تجده ماثلا بوضوح لدى الحيوانات والحشرات، فالكلب يختزن تحت الثرى عظمة فاضت عن شهيته، والسنجاب يدخر البندق لوجبة أخرى في وقت لاحق، والنمل يكدس في الصيف زاده في الشتاء. فالإنسان أولى بثقافة الادخار والتزود لأيام الأزمات، خاصة أنها تسهم في الرقي المجتمعي، وهذا ديورانت يقول في «قصة الحضارة»: «لقد كان لأهل بولينزيا شباك طولها ألف ذراع لا يستطيع استخدامها إلا مئة رجل مجتمعين، وبمثل هذا تطورت وسائل ادخار القوت جنباً إلى جنب مع النظم السياسية، وكان اتحاد الناس في تحصيلهم للقوت، مما أعان على قيام الدولة».
إن الهدف من طرق هذه القضية، هي ما نراه من أوضاع اقتصادية متردية في أمتنا، في الوقت الذي تقف فيه الأنظمة بعيدة عن تطلعات الشعوب ومصالحها إلا من رحم ربي، وجميع المؤشرات تقرع أجراس الخطر بأن الأوضاع في طريقها إلى مزيد من التدهور، وإن كانت أقلامنا بعيدة عن التأثير في سياسات الدول، فهي أقرب إلى قلوب الناس الذين يقفون وحدهم في مواجهة الأزمات الاقتصادية، والذين ينبغي عليهم اتباع ثقافة رشيدة في الإنفاق والسلوك الشرائي والسعي نحو الادخار والاهتمام بالغد، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
المصدر : موقع الكاتبة إحسان الفقيه
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة