الطائفية .. بضاعة المفلسين
يمثل مصطلح "الطائفة" في أدبياتنا، فيما يمثله، ذلك الجزء من الأمة الذي يبقى متمسِّكاً بالحق، ظاهراً بقوة حُجته وصلابة عزّته، مجاهداً في سبيل الله، وقد أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه في بيت المقدس وأكنافها... قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوِّهم قاهرين، لا يضرّهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك"، قالوا: وأين هم؟ قال: "ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس" رواه أحمد.
أما الطائفة لدى الآخرين فهي "تشكيلة" حقد وكراهية وسفك دماء وانتهاك أعراض...
هي استغلال الطائفة استغلالاً غرائزياً لتحقيق مكاسب سياسية رخيصة.
هي خوف الآخر غير المبَرَّر على كيانه ووجوده، واستباقه بلعبة "الإقصاء" ومبادءته بالاعتداء على حياة الآخرين وأمنهم.
هي ذلك الشعور البغيض المتأصِّل في وجدان النفوس المريضة والقلوب التي تقطر حقداً وجهلاً.
هي البذرة الخبيثة التي زرعها اليهود مذ وضعوا بروتوكولاتهم؛ فقد جاء في البروتوكول الخامس: يزرع اليهود بين كل فرد وآخر التعصبات الدينية والقبلية، وبذلك لن تستطيع أي حكومة منفردة إيجادَ عونٍ لها من الدول والحكومات الأخرى لتساعدها على المقاومة ضد اليهود.
هي العصا التي يلوّح بها أعداء الأمة كلما أرادوا تحقيق مصالحهم وتمرير مشاريعهم في بلادنا. يرى زبغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي خلال رئاسة جيمي كارتر (1977 -1981)، الذي يعمل حالياً مستشاراً في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية وأستاذاً لمادة السياسة الخارجية الأميركية في كلية "بول نيتز" للدراسات الدولية المتقدمة بجامعة "جون هوبكنز" في واشنطن، يرى أن أفضل وسيلة لتفتيت الأنظمة والدول والشعوب هي تعميق التعدد المذهبي والطائفي والعِرقي، من خلال تمكين طائفة بعينها ودعمها، لقهر بقية المكوِّنات...! وهو ما بدأه فعلاً في عهد رئيسه حين نصح الرئيس بالسماح (للشيعة السياسية) بالسيطرة على الحكم في إيران على حساب كل القوى الثورية التي شاركت في الثورة ضد شاه إيران، وكان ذلك إيذاناً بفتح صفحات مشروع كبير يرتبط بعُقَد سياسية مرتبطة بتاريخ الطوائف والمذاهب في المنطقة .
الطائفية تمَ زرعها تأميناً لمصالح الدول الكبرى؛ بدءاً من إجبار الناس على اعتناق مذهب بعينه بالقوة في إيران أيام الحملة التي قادها الصفويون (1587-1629). مروراً بالحملة الفرنسية على مصر عام 1798 التي أثارت النعرات الطائفية بين المسلمين والأقباط الذين ساندوا الفرنسيين ضد الثوار ، وما أعملته بريطانيا وفرنسا من سيوف الطائفية في لبنان وسوريا وبلاد الشام عموماً لإحكام سيطرتهما... وما تلا ذلك من حرب أهلية في لبنان (1975 - 1990) ذات طابع مذهبي طائفي بامتياز عشنا ويلاتها ومخلفاتها حتى اليوم، وصولاً إلى ما يحدث اليوم من تصارع قوى دولية وُكَلاؤها "ملوك الطوائف" على أرض لبنان وسوريا والعراق ومصر واليمن والبحرين...
طوال حقبة الحكم الإسلامي نَعِمت الأقليات عيشاً ونالت حقوقها كافة: العقائدية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية... ومع ذلك سَجَّل التاريخ غدرها وخيانتها للدولة وتآمرها مع العدو لتحقيق مآرب ذات أبعاد مذهبية. وما انقلاب الفاطميين في مصر على دولة الخلافة في بغداد بخافية؛ حيث أعلنوا أنفسهم خلفاء، وخرجوا على جمهور الأمة، وضايقوا أهل السنة في مصر حتى أصبحت قراءة صحيح البخاري جريمة!! ومع كل ذلك فإن تعامل صلاح الدين الأيوبي مع هذه الدولة كان محكوماً بمنطق غير طائفي، وكان مبنياً على إدراك عميق لظروف الطوارئ التي تعيشها الأمة وهي محاصرة بين الخطر الصليبي والزحف المغولي. يذكر الإمام المؤرِّخ أبو شامة أن أبا الفتوح بن الخليفة الفاطمي العاضد أخبره "أن أباه في مرضه استدعى صلاح الدين فحضر، قال: وأحضرَنا، يعني أولاده وهم جماعة صغار، فأوصاه بنا، فالتزم إكرامنا واحترامنا، رحمه الله".
هذه هي أخلاق قادتنا الذين قدّموا مصلحة مجموع الأمة متجاوزين كل الخلافات المذهبية والعقائدية، مكرّسين مبدأ العدل مع الجميع، منطلقين من المنهج الإسلامي في التعامل مع المخالفين؛ فقد قال تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256]، ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8]، ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8]. وقال - صلى الله عليه وسلم - : "ألا مَن ظَلم مُعاهَدًا، أو انتَقصَهُ حقّاً، أو كَلَّفَهُ فوق طاقتِهِ، أو أخذ منه شيئاً بغير طِيبِ نفسٍ منهُ؛ فأنا حَجيجُهُ يوم القيامة" رواه أبو داود.
إن ما يحدث اليوم في سوريا من إبادة للإنسان ومن تدمير للبنى التحتية إنما هو رشحات من المناخ الطائفي بمنطقة الإقصائي، وكذلك ما يجري في العراق من مجازر عنوانها: "الانتماء الطائفي"... ويؤكد على مقدار الحقد والتمييز الذي تتعامل به تلك "الكيانات الطائفية" مع شعبها، ويُنذر بحرب طائفية إقليمية مدمرة تعمّ الشرق الأوسط بحسب صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية التي أشارت في افتتاحية بعنوان "الكارثة الوشيكة في العراق والشرق الأوسط" إلى أن "الحرب الطائفية الإقليمية التي كانت دوماً من أخطر التداعيات المتوقعة للأزمة في سوريا على وشك الاندلاع" .
عندما انتفض السوريون لم يرفعوا شعارات طائفية أو مذهبية، ولم يعتدوا على شركائهم في الوطن من غير ملّتهم، بل ثاروا في وجه الظلم والفساد ومصادرة الحرية والاعتداء على كرامة الإنسان وإهدار حقوقه. وكذلك العراقيون... فحوّلها الساسة إلى مجازر طائفية. ولا ننسى بورما التي أصبحت عَلَماً على انتهاك حرمة الإنسان المسلم عملاً بسياسة التمييز العنصري التي تطبقها حكومة البوذيين...
وهكذا، فعندما تتعامل الدولة مع مخالفيها بمنطق مذهبي طائفي وتُغذي النعرات الطائفية بين "أبنائها"، إن كانت تحسبهم كذلك، فقد فقدت سبب وجودها الجامع - في الأصل - الناظم لمكونات المجتمع تحت مظلة "الوطن"، وبالتالي فقدت هيبتها وأهليتها للقيادة، وهي بهذه العقلية بالطبع لن تتنحى من تلقاء نفسها، وإنما تحتاج إلى آليات ورافعات ومطهِّرات ومعقِّمات.. وهذا بالضبط ما تفعله الثورات اليوم في بلادنا، ولبلوغ هذا الهدف يبذل أبناؤها أغلى وأعز ما يملكون.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن