البيت والأسرة... وأثرهما في صلاح المجتمع
لقد اهتم الإسلام بالبيت.. واعتنى بالأسرة.. على اعتبار أنهما من العوامل الرئيسة والدعائم الأساسية في صلاح المجتمع والأمّة.
وإنّ ما نعانيه اليوم من تفكك الأسر وخراب البيوت وضياع الأبناء وفساد الأخلاق وسقوط القيم.. يعود بشكل كبير إلى إهمال الأسرة وعدم العناية بالبيت.. مما ينعكس سلباً على المجتمع ككل. وإن لم نتدارك ذلك بالإصلاح.. غرقت سفينة المجتمع بجميع من فيها من ظلمات الجاهلية والضلال في الدنيا.. وفي دركات العذاب والنار في الآخرة. لذا هتف بنا القرآن:﴿يا أيُها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً..﴾[التحريم:6]. ووضعنا النبي صلى الله عليه وسلم أمام مسؤولياتنا فقال:"إن الله تعالى سائلٌ كلَ راعﹴ عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيّعه، حتى يسأل الرجل عن هل بيته" رواه النسائي وابن حبّان (صحيح الجامع 1775).
* العناية بالأسرة
إيجاد الأسرة الصالحة من أهم واجبات الإنسان المسلم في هذه الحياة، قال تعالى:﴿والذين يقولون ربَنا هب لنا من أزواجنا وذرّيَاتنا قرَة أعينﹴ واجعلنا للمتّقين إماماً﴾[الفرقان:74]. أي يسألون الله أن يخرج من أصلابهم ومن ذريّاتهم من يطيع الله ويعبده وحده لا شريك له، فتقرُ بهم أعينهم- أي تسر- في الدنيا والآخرة.
وبناء الأسرة الصّالحة والحصول على الذرية الطيبة لا يتم بمجرد الدعاء (وحده) بل لا بد أن يقوم الوالدان بواجبهما الشرعي كاملاً تجاه الأبناء، هذا الواجب الذي لا يقتصر على تأمين الغذاء والكساء بل يتعدّى ذلك إلى ما هم أهم، وهو تربيتهم على أساس الإسلام عقيدةً وعبادة، ومنهجاً وسلوكاً، وشريعة وأخلاقاً.. خصوصاً في هذا الزمان الملهمّ بالفتن والمليء بالانحرافات الخطيرة والمفاسد الكبيرة، حتى صار الأب مع أولاده كراعي الغنم في أرض السِباع الضارية ن غفل عنها أكلتها الذئاب ومزّقتها بأنيابها. ونحن إن غفلنا عن أبنائنا أكلتهم الذئاب البشرية وطحنتهم الحياة المادية وكانوا في الآخرة حطب جهنم، والعياذ بالله. قال الإمام ابن القيم- رحمه الله- :(إن الله سبحانه يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة، قبل أن يسأل الولد عن والده، فإنه كما للأب على ابنه حقّ، فللابن على أبيه حق، فكما قال تعالى:﴿ووصّينا الإنسان بوالديه حسنا﴾[العنكبوت:8]، قال تعالى:﴿.. قوا أنفسكم وأهليكم ناراً﴾ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:"علّموهم وأدّبوهم".. فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدىً، فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل ترك الآباء لهم وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً، كما عاتب بعضهم ولده على العقوق، فقال:"يا أبت!! إنك عققتني صغيراً فعققتك كبيراً،وأضعتني وليداً فأضعتك شيخاً" (تحفة المودود:184).
* البيت: نعمة ومسؤولية
قال الله تعالى:﴿والله جعل لكم من بيوتكم سكناً﴾[النحل:8].
قال ابن كثير- رحمه الله- :(يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده، بما جعل لهم من البيوت التي هي سكنٌ لهم يأوون إليها، ويستترون وينتفعون بها سائر وجوه الانتفاع).
وقال ﷺ لعقبة بن عامر رضي الله عنه، عندما سأله فقال: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال:"أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك" رواه أبو داود والترمذي وقال حسن.
فكيف يصبح البيت سبباً: للسكينة والسعادة والنجاة؟!!.
لتحقيق هذه الأمنية العزيزة، لا بدّ من خطوات عملية، من أهمها:
1-حسن الاختيار: فعلى الرجل أن يحسن اختيار زوجته، وعلى المرأة ووليّ أمرها أن يحسنا اختيار الزوج وفق الضوابط الشرعية التالية:
قال صلى الله عليه وسلم:"إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسادٌ عريض" رواه ابن ماجه، وقال عليه الصلاة والسلام:"ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وزوجة مؤمنة، تعينه على أمر الآخرة" رواه أحمد والترمذي وغيرهما.
وقال أيضاً:"من السعادة: المرأة الصالحة: تراها فتعجبك، وتغيب عنها فتأمنها على نفسها ومالك. ومن الشقاء: المرأة تراها فتسوؤك، وتحمل لسانها عليك، وإن غبت عنها لم تأمنها على نفسها ومالك" رواه ابن حبّان وغيره.
والرجل الصالح مع المرأة الصالحة يبنيان بيتاً صالحاً، لأن البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلاّ نكداً.
2-السعي في إصلاح الزوجة: قد يبتلى المرء بزوجة غير صالحة، فعليه أن يسعى لإصلاحها بالحكمة والموعظة الحسنة، فيأمرها بالواجبات الشرعية ويرغِبها بالطاعات، ويزجرها عن المحرمات، ويرهِبها من المعاصي والمنكرات. ويحثّها على طلب العلم والاستكثار من الذِكر وتلاوة القرآن والصدقة وقراءة الكتب الإسلامية النافعة المنتقاة، وسماع الأشرطة الإسلامية الهادفة. ويختار لها صاحبات صالحات، ويبعدها عن قرينات السوء.
3-جعل البيت مكاناً لذكر الله: قال صلى الله عليه وسلم:"مثل البيت الذي يذكر الله فيه، والبيت الذي لا يذكر الله فيه، مثل الحيّ والميت" رواه مسلم.
وكم من بيوت المسلمين اليوم هي ميتة بعدم ذكر الله فيها.
فأحيوا بيوتكم- رحمكم الله- بأنواع الذكر: القلبي واللساني، والصلوات وقراءة القرآن ومذاكرة العلم الشرعي، وإياكم أن تميتوها بألحان الشيطان: من المعازف والغناء الماجن، والغيبة والبهتان والنميمة وتعليق الصور ومشاهدة وسائل الإعلام الفاسدة وغير ذلك من المعاصي والمنكرات، كالاختلاط المحرَم والتبرُج أمام الأقارب غير المحارم، أو الجيران.. فإن ذلك من رأس المفاسد.
4-جعل البيوت قبلة: قال الله عز وجل:﴿... واجعلوا بيوتكم قبلةً وأقيموا الصلاة وبشِر المؤمنين﴾[يونس:78]. قال ابن عباس- رضي الله عنهما- في هذه الآية:"أمروا أن يتخذوها مساجد". طبعاً هذا في أوقات الاستضعاف أو الأعذار كالمرض، وبالنسبة للنوافل كصلاة الضحى والوتر وقيام الليل ونحو ذلك من النوافل.. أما الفرائض فالواجب أن تصلّى في المساجد إلا لعذر، لقوله صلى الله عليه وسلم:"خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة"- أي المفروضة- رواه أبو داود. أما بالنسبة لصلاة المرأة فقد جاء في الحديث:"خير صلاة النساء في قعر بيوتهن" رواه الطبراني.
وفائدة الصلاة في البيت، إضافة إلى إعلاء ذكر الله، تعويد الأطفال والأبناء على إقامة الصلاة، عندما يشاهدون الوالدان يقومان بذلك. كذلك تعويدهم على الصدقة والصيام. ومن الأفكار المبتكرة وضع صندوق للتبرعات في البيت لمساعدة المحتاجين من الفقراء والمرضى والمجاهدين وغير ذلك من وجوه الخير.
5-تعهُد العلم الشرعي في البيت: وذلك استجابةً لقوله تعالى:﴿قوا أنفسكم وأهليكم ناراً..﴾ قال الضَحّاك ومقاتل:"حق على المسلم أن بعلّم أهله من قرابته وإمائه ما فرض الله عليهم وما نهاهم عنه".
وفي غمرة مشاغل الرجل قد يغفل عن تفريغ نفسه لتعليم أهله، فمن الحلول لهذا أن يخصِص موعداً لأهل البيت وغيرهم من الأقارب، لعقد مجلس علم داخل المنزل، ويعلمهم به، فينضبط حضورهم فيه ويتشجعوا لإتيانه، ويصبح ملزماً أمامهم بالحضور.
ويفضّل أن يبدأ هذه الجلسات بتدريس تفسير مفصّل بأسلوب ميسّر، إضافة إلى كتاب في الحديث النبوي مع تناول أحاديثه بشيء من التعليقات والعظات والفوائد.. مثل "نزهة المتقين شرح رياض الصالحين"، وغيرهما من العلوم الشرعية كأصول العقيدة والاخلاق الإسلامية...
ولا ننسى في هذا المجال: تذكير أهل البيت بمواعيد المحاضرات والدروس التي تقام في المساجد وبالأيام المخصَصة للنساء.
ومما يساعد في تعليم أهل البيت، عمل مكتبة إسلامية مقروءة ومسموعة تحوي مجموعة من الكتب والأشرطة المفيدة، للعلماء والقراء والمحاضرين والخطباء والوعّاظ والمفكرين.. الذين يعملون على توعية الأمة، وإقامة الحجة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وليس بالضرورة أن تكون المكتبة كبيرة، ولكن العبرة بانتقاء ما هو هامٌ ونافع ولنرفع شعار (المفيد قبل الجديد).
6-دعوة الصالحين والأخيار للزيارة في البيت: قال تعالى:﴿ربِ اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمناً..﴾[نوح:28]. إنّ دخول أهل الإيمان بيتك، يزيده نوراً، ويحصل بسبب أحاديثهم وسؤالهم والنقاش (الأديب) معهم.. الفوائد الكثيرة.
7-مراعاة الأحكام والآداب الشرعية للبيوت: ومن ذلك، أن لا يكون البيت كاشفاً لغيره ولا منكشفاً على الآخرين، وأن يراعى فيه فصل الرجال عن النساء غير المحارم، وتحريم الاطلاع على بيوت الآخرين بغير إذنهم، وأن لا يؤمَ غيره في بيته ولا يقعد في مكان صاحب البيت إلا بإذنه، وأمر الأطفال بعدم اقتحام غرفة نوم الأبوين بغير استئذان في أوقات النوم المعتادة (قبل صلاة الفجر، ووقت القيلولة أي بعد الظهر وبعد صلاة العشاء) خشية ن تقع أعينهم على ما لا يناسب، ولا يبيت وحيداً في البيت، ولا ينام على ظهر بيتﹴ ليس له سور حتى لا يسقط، كما يستحب عند النوم إطفاء المصابيح والمواقد ونحو ذلك، وإغلاق الأبواب وتغطية أوعية الطعام والشراب مع ذكر الله تعالى، والتفريق بين الذكور والإناث في المضاجع.
8-﴿وأمرهم شورى بينهم﴾[الشورى:38]: إنّ إتاحة الفرصة لأفراد العائلة للجلوس معاً في اجتماعاتﹴ منزلية لمناقشة أمور عائلية، هي علامة على تماسك الأسرة وتفاعلها وتعاونها، وتربية للأبناء على تحمّل المسؤولية. كما أن بعض المشكلات التي تواجه الأبناء البالغين لا يمكن حلّها إلا بجلسات انفرادية يخلو فيها الأب بابنه يناجيه في مسائل تتعلق بمشكلات الشباب، وسن المراهقة، وأحكام البلوغ. وكذلك تخلو الأم بابنتها لتلِقنها ما تحتاج إليه من أحكام شرعية وتوجيهات سلوكية.. تساعدها في حلِ مشكلاتها الشخصية في مثل هذا السنّ. واستهلال الأب والأم الكلام بمثل عبارة (عندما كنت في مثل سنك..) له أثر كبير في التقبُل.
9-الحرص على عدم وقوع الخلافات (وخصوصاً بين الزوجين): وعدم إظهارها- إن حصلت- أمام الأولاد، لأن ذلك يزعزع تماسك البيت، ويلحق أضراراً نفسية جسيمة بالأولاد، والصلح خير، والرجوع إلى الحق فضيلة.
10-حرص الأمّ أن تكون موجودةً في البيت مع أولادها لكي تتمكن من ضبط الأمور داخل البيت والإشراف على التربية والإصلاح، بالمراقبة والمتابعة.
فتعلم مدى التزام أفراد العائلة بالواجبات الشرعية، والأخلاق الإسلامية، من هم أصدقاء أولادها، ماذا يجلبون معهم من خارج البيت، كيف يقضون أوقاتهم، ماذا يوجد في أدراجهم وحقائبهم، إلى أين تذهب ابنتها- مثلاً- ومع من؟
ولكن هنا نقاط مهمّة: يجب أن تكون المراقبة خفية، لا لأجواء الإرهاب، وفقدان الثقة، مع مراعاة السن، ودرجة الخطأ في النصح أو العقاب، وحذار من التدقيق السلبي وسياسة إحصاء الأنفاس.. فليس الأب أو الأمّ هو الملك الموكّل بكتابة السيئات وليس بضابط أمن.. وليقرأ كلٌ منهما المزيد في أصول التربية الإسلامية.
وبالمقابل هناك أناسٌ يرفضون التدخل في شؤون أولادهم بتاتاً.. ويطلقون لهم العنان.. فهل يفكر هؤلاء بأن أبناءهم قد يأخذون بتلابيبهم يوم القيامة فيقول الولد: لم تركتني يا أبي على المعصية؟! هؤلاء الذين يفلتون أولادهم لن يفلتوا يوم القيامة من الحساب "كلكم راعﹴ وكلكم مسؤول عن رعيته" رواه البخاري ومسلم.
وختاماً: هذه هي أهم النصائح والخطوات العملية التي تساهم في إصلاح الأسر والبيوت وبالتالي المجتمعات... وطبعاً هناك خطوات أخرى لا يتسع المجال لذكرها، والعبرة- أيها الأخوة والأخوات- بقبول النصيحة وتطبيقها في واقعنا لنفوز بسعادة الدارين (الدنيا والآخرة) ويجتمع شملنا مع أهلنا في جنّة الخلد. قال تعالى:﴿جنات عدنﹴ يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، والملائكة يدخلون عليهم من كلِ باب* سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار﴾[الرعد:23-24].
* ملحوظة: مادة هذا الموضوع مستفادة من كتيّب (40 نصيحة لإصلاح البيوت) لمحمد صالح المنجد.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن