وهو على كل شيء قدير
ما أجمل الألم.. حينما كنت أصرخ وجعاً لم ترتسم على وجهي أمارات التعب.. بل الابتسامة لم تكن لتفارق محيّاي.. وحين لقيت عليه النظرة الأولى، شعرت بثغره يطلق ابتسامة عفوية انتشرت الأزهار من حولها، وغرَدت الأطيار من فوقها، وشعّت الأنوار من جوانبها.. عندها لم ينطق لساني بغير ( الحمد لله) وغرقت في غيبوبة طويلة وما استيقظت إلا ويده الصغيرة تلامس وجهي بعفوية ناعمة وبلمسات خفيفة لا تشعر بحلاوتها إلا من مرَت بظرف مثل ظرفي.. تلك البسمات كانت مصحوبة ببكاء هادئ صاخب..
فتحت عينيّ وإذا (أمجد) محتضنٌ الطفل بذراعيه كي لا يسقط من أحضاني وأنا غافلة.
أول ما استقبلت أذناي كان صوته يقول:
بعد عشر سنوات غدوت أمّاً..
* أمّاً!! آه من هذه الكلمة.. لكم حلمت بها.. لكم انتظرتها انتظاراً مريراً قاسياً، كانت أوجاعه أمرَ وأقسى من الأوجاع التي عانيت منها في أثناء شهور الحمل وأيام الطَلق والولادة أضعافاً مضاعفة..
فقد كانت الحسرة تنهش قلبي كلّما مرّ يوم وأسبوع وشهر وسنة دون أن تقرَ عيني بانتفاخ بطني.. كنت قول:"لو أنه ينتفخ وهماً على الأقل". ومن شدّة شوقي للحمل كنت أوهم نفسي أنني في حالة غثيان وأنني أهفو إلى الحامض من المأكولات، وأنني وأنني... الخ حتى إني أصبحت أعرِض نفسي للبرد، لعلّي أشعر بالقيء فأقول:
*لعلّه حمل!!
صنع الله عجيب. إنه حقاً يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ.. كلّ الأطباء وطوال عشر سنوات، كان جوابهم.. أن لا أمل فيّ إطلاقاً، وأن بطني لا خير فيه بتاتاً..
أما (أمجد) فلم يصارحني بالحقيقة.. كان يقول لي حين أسأله:
الله كريم..
حتى ثرت عليه مرة وقلت:
* لعلك مريض.. عالج نفسك. أريد أطفالاً..
حينها تحركت رجولته التي كتم صوتها سنوات طويلة، حين كان يرى نظرات الشك في عيوني، وهو يتهرّب منها خوفاً على مشاعري، حتى طعنته بغباء في رجولته، فأحسست ساعتها أن (أمجد) الذي أعرفه قد اختفى، والرجولة المسجونة انطلقت تتكلم:
بل أنت عقيم.. بطنك لا تحمل حتى حجارة صمّاء، وقد أكّد ذلك كلّ الأطباء..
أحسست أن السماء سوداء، والدنيا غارت حقاً، وعينيّ لم تعودا تريان سوى كلمة عقيم.. عقيم.. عقيم.. لا أدري كيف أصف شعوري.. وقفت أمام المرآة وأمسكت بأحشائي.. وقررت أنّ تلك الأحشاء الخاوية لا تستحق حياةً أبداً.. حاولت أن أطعنها، إلا أن (أمجد) كان لي بالمرصاد.. بقيت أسبوعاً على هذه الحال، حتى اهتديت إلى السُمّ، وقررت أن الأحشاء العقيمة لا محلّ لها في الحياة، وأنها تستحقّ أن تتوجّع وتتألم وتتقطّع ثم تموت.. نعم تموت.. فالشجرة التي لا تثمر تقطع.. لكن (أمجد) كان نسمة رطبة في حياتي.. بل الهواء الذي يمدّني بالحياة.. وتمكّن من انتزاع تلك الفكرة الكافرة من رأسي.. وقرّرت أن أواجه الواقع بقوة وصمود، فتركت له الحرية في الزواج من أخرى، والإنجاب، غير أنه ابتسم قائلاً:
ما كنت لأضرَك بضرّة يا غالية.
ودفن رأسه في صدري، وسمعت نشيجه كطفل يبكي في أحضان أمّه لأنه أدرك أن الأمل مقطوع من إحضار لعبةﹴ له.. وبكيت أنا بعنف، بكاء من يدرك أنّ الحبيب مغادر لا محالة.. مضت ليلة صعبة غرقنا بدموعنا، ثم قررنا ممارسة حياة طبيعية.. وقرر أن يكتم الأمر عن العالم.. وأوهم الجميع أنني قد أجهضت، وأن جسدي لا يتحمّل حالياً الحمل.. بدأ الشك يغازل قلبي كلّما تأخر.. كلّما سافر.. كلّما نظر إلى طفل.. كلّما تحدّث بهمس مع أمّه أو بالهاتف.. وفي السنة التاسعة عزمت أمُه على تزويجه، فهو وحيدها، ليس لها بنت ولا ولد سواه.. كنت أراه عصبياً في سابق الأيام، فأعلم أن الأبوّة عادت لتوقظه، وأعدّ نفسي للمصائب الآتية، ولكنه لا يلبث أن يأتي ويدفن في صدري عيوناً باكية،ويعود صباحاً إلى حالته الطبيعية.. أما الآن فهو حادٌ الطبع، ولم يعد يبكي كالسابق.. وعندما طفح الكيل قلت له بهدوء وبشموخ مصطنع، وكأني أحمل جبالاً.. قلت:
* لك الحرية في أن تتزوج وتنجب.. فقال بعفوية:
لا تكوني أنت وأمي عليّ.. ارحماني.. قلت باستفهام:
* أمٌك!؟
نعم أمه تريد حفيداً، وأنا شجرة يابسة..
أخذ قلبي يدقّ بعنف كلما دخلت أمُه بيتي، وكلما دخل هو بيتها.. وأعدّ نفسي بعد كل زيارة لأسمع قرار زواجه، حتى نطقه أخيراً قائلاً:
راوغت أمي وقلت لها: إني سأعطيك فرصة سنة، إن لم تحملي أثناءها فابنة خالتي الأرملة ستصبح زوجة لي، ولكن أعلمك يا حبيبتي أني أكذب على أمي ولن...
قاطعته:
* أمجد لا يكذب على عدوِه فكيف على أمّه.. افعل ما يحلو لك ولأمِك..
لم يبق من السنة سوى أشهر ثلاث، تمّ فيها خطبة المرأة والعرس بعد انقضاء ما بقي من الأشهر الثلاث الأخيرة من السنة (الفرصة).. كنت أراه كثير الشرود، وبدأ الشَيب يأكل سواد شعره، ولسانه لا يفتر عن التأكيد لي بأنه لن يتزوج سواي، ويأتي بخطط كلّها تؤدي إلى إشاعة كذبة بأني حامل وتفسخ الخطبة ثم يموت الجنين وهكذا.. كان بين نارين: حبّ الزوجة (أنا) وحبّ الأولاد (المتمثِل بالزواج الجديد).. ولكني أنا قديم عتيق بارد.. أما الأولاد فهم حلم جديد دافئ يلمع أمام ناظريه..
فجأة بدأت أعراض الحمل تظهر حقيقة عليّ، لا وهماً. لكني أؤكد لنفسي أنها وهم.. لقد سمّيت نفسي "حنظلة حقيرة".. ولكن الأشهر تمرّ.. فقد مرّ الأول والثاني والثالث وأنا على هذه الحال.. وجاء اليوم الموعود الذي سيحدِد فيه (أمجد) حفل الزفاف فيه، وهو يوم الغد.. ليلتها جفوت غرفة نومه، ورغبت عنه. كلانا ينهش من جهة.. هو ينهشه حبِي وحبّ الأولاد وأنا تنهشني غيرة وخوف من المستقبل.. في منتصف الليل نهضت من فراشي، فلم أجده بقربي أغطِيه بحنانﹴ كعادتي.. وتخيَلتها هي تغطّيه، تنظر في عينيه.. المرأة الأنثى.. صرخت في داخلي، ودفعتني إلى حجرته، دخلت الغرفة وإذا هو يبكي بألم.. قلت:
* أعريس يبكي؟
قال بتخاذل أسدﹴ مهزوم:
أنا تائه.. كوني قريبة منّي في محنتي..
* لا تتزوّج.
وأمي؟!
* لا تتزوّج.
والأولاد؟!
* لا تتزوّج.
والمرأة المخطوبة؟!
* لا تتزوّج.
اعتصرت كبريائي، وانحنيت أبكي عند قدميه ويديه، فرفع رأسي وحاول أن ينطق، فلم أدعه يتكلم وقلت:
* أمهلني شهرين أو ثلاثة فقط.
لكن..
وعيناي قالت: أرجوك.
وكان كريماً كعادته.. وتأجَل العرس..
في الشهر الخامس بدأت أشعر به..
الحماية للمرأة بعد الزواج عندنا نحن العرب هو الطفل، فهو حقاً السَند هنا في عالمنا العربي وللأسف بغضّ النظر عن أي اعتبارات عاطفية أو أخلاقية أخرى.. هو.. هو.. السَند يريد أن ينقذ أمَه، ويعلم الناس جميعاً أن الله موجود، وأنه هو موجود سنداً لأمه.
ذهبت حالاً إلى الطبيبة.. فرأيت جنيناً بل سيّداً يعيش في بطني.. الأقدام شلّت، واللسان خرس، والعيون جمدت تنظر نحو شاشة جهاز الفحص، والدموع تحجّرت في المآقي..
قامت الطبيبة بعد أن رأت حالتي، وأخذت رقم هاتف (أمجد) وطلبت منه الحضور فوراً.. جاء (أمجد) وفي ذهنه صورتي، وأنأ أحاول قتل نفسي، لا قدَر الله كالكفرة.. حين دخل إلى حجرة الفحص التي حجزتها مدة طويلة لحين حضوره، لم يحدِثه أحد، فقط أشرت إلى الشاشة، فرأى حبيباً بل معشوقاً يتخبط في أحشائي، فسجد لله سجود شكر، ونطق بخشوع اهتزت له الأرض:
"وهو على كل شيء قدير"
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن