الإمام البخاري... هبة الله تعالى إلى هذه الأمة
لقد كثرت في الآونة الأخيرة حملات التشكيك في صفوف أهل السُنّة والجماعة من قبل من يحسبون على الإسلام، وليسوا من صلبه. وكان آخر ما وقع من ذلك أن ضمّ مجلسٌ مجموعةً من أهل السُنّة وغيرهم، كان الهدف منه التقريب بين المذاهب وإذابة الفوارق. فطرح معترضٌ- ممّن لا يرى في السُنّة نجاةً – إشكاليةً حول الإمام البخاريِ تتعلّق بحفظه وتحرّيه لألفاظ الروايات مشكِكاً وموهناً لهذا الإمام العظيم، معتمداً على مقولة قالها الإمام:"ربَ حديثﹴ سمعته بالبصرة فكتبته بالشام"، وعلى ما ذكره الحافظ ابن حجر في "مقدّمة الفتح" ص 14 عند الكلام على ما ذكره الحافظ أبو عليٍ النَيسابوريُ في تفضيل صحيح مسلم على صحيح البخاري. قال الحافظ:"والذي يظهر لي من كلام أبي عليٍ أنّه إنما قدَم صحيح مسلم لمعنى غير ما يرجع إلى ما نحن بصدده من الشرائط المطلوبة في الصحة، بل ذلك لأن مسلماً صنّف كتابه في بلده بحضور أصوله في حياة كثيرﹴ من مشايخه، فكان يتحرَز في الألفاظ ويتحرّى في السياق بخلاف البخاري، فربما كتب الحديث من حفظه، ولم يميِز ألفاظ روايته، ولهذا ربّما يعرض له الشك. وقد صحّ عنه أنه قال:"ربَ حديثﹴ سمعته بالبصرة فكتبته بالشام". اهــ.
ويراجع (تجريب الراوي 1/100) [إذ وقع سقط في كلام الحافظ في طبعة دار الريّان]. فأخذ هذا المعترض يصول ويجول ويركِب نتائج على مقدّمات استنتج منها أن صحيح البخاري لا يعوَل عليه. فالإمام إنما يكتب من حفظه، ولا يعرض على أصوله، وهو لا يتحرَى السياق، ولا يميِز ألفاظ الرواية، وربّما يعرض له الشك. وهذه الأوصاف إذا اجتمعت – كما قال المعترض – في رجل كان ساقط الرواية. والقوم جلوسٌ ولم يحرِك أحدٌ منهم ساكناً!!!
وهذا الذي ذكره المعترض لا يعدو أن يكون وهماً عنَ على باله وخطر، ثم ألقاه في وسط من لا يعرفون قواعد المصطلح مشكِكاً، على طريقة القرامطة القدامى، ليزعزع يقينهم بدينهم وثقتهم بعلمائهم.
والجواب على هذا الاعتراض سهل يسير على من رزقه الله تعالى حسن النظر في مصطلح أهل الأثر.
- رواية الإمام البخاري من حفظه.
أما رواية الإمام البخاري من حفظه دون الرجوع إلى الأصول سببها أن الله تعالى قد حباه بذاكرةﹴ وقّادة وحافظة عجيبة غريبة لا تكاد تجد لها مثيلاً إلا النَفر والنَفرين ممن سبق الإمام أو عاصره أو عقبه. وبالعودة إلى الفائدة الخامسة من مقدِمة ( لامع الداراي على جامع البخاري) لنحدّث الهند وغمام دار الهجرة في زمانه مولانا محمد زكريا الكاندهلوي – والتي خصّصها لبيان سعة حفظ الإمام البخاري – نراه يذكر فيها نقلاً عن الإمام البخاريَ كان يحفظ وهو صبيٌ سبعين ألف حديث سرداً، وأنه كان ينظر في الكتاب مرّةً واحدة فيحفظ ما فيه من نظرة واحدة. وقال ورّاقة محمد بن أبي حاتم:"سمعت حاشد بن إسماعيل وآخر، يقولان: كان البخاريُ يختلف معنا إلى السماع وهو غلام، فلا يكتب، حتى أتى على ذلك أيّام، فكنا نقول له، فقال: إنكما أكثرتما عليّ، فاعرضا عليّ ما كتبتما، فأخرجنا إليه ما كان عندنا فزاد ذلك على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلَها عن ظهر قلبه حتى جعلنا نحكم كتبنا من حفظه، ثم قال: أترون أني أختلف هدراً وأضيِع أيامي؟ فعرفنا أنه لا يتقدّمه أحد".
ومن أجل حافظته القوية تلك التي حباه الله بها، كان شيوخه يصحّحون كتبهم على حفظه. وقصّته مع الذين امتحنوه في بغداد حيث قلبوا الأسانيد على المتون في مئة حديث ثم كيف صحّحها لهم، مشهورة. فرجل بهذه الحافظة لا يحتاج إلى أصول يعرض عليها، بل هو الأصل الذي يعرض عليه ويضبط. وهذا في حكم المتواتر عن هذا الإمام حيث لم ينتقده في حفظه أحدٌ من النٌقّاد على مرّ الدهور، باستثناء أهل مذهب المعترض، وهم ليسوا ممن يؤخذ قولهم أو يعتمد نقدهم.
- عدم تحرِيه السياق وعدم تمييزه ألفاظ الرواية.
أما قول الحافظ في البخاريِ: إنه لم يفعل كما فعل مسلم في تحرِي السياق وتمييز ألفاظ الرواية، فهذا راجعٌ إلى طريقة كلٍ في جمع مصنِفيه، وحاصله أن الإمام البخاريَ لم يسق رواياته على النَسق الذي أورده مسلم، إذ من المعلوم أن الإمام مسلماً لم يكن ممن يجيزون الرواية بالمعنى ولذلك فإنه كان يذكر الحديث ثم يسوق الشواهد بعده لإثبات لفظة رواية أو كلمة، وهذا هو مقصد الحافظ بتمييز ألفاظ الرواية. وهو ما لم يصنعه البخاري حيث إنّه فرّق الحديث الواحد في مواضع كثيرة غير معوِلﹴ على سوق الطرق المبيِنة للألفاظ وإنما للمعاني المستنبطة من فقه الحديث، ولذلك كان يفرّق الرواية الواحدة تحت عدّة أبواب تستفاد من أجزائها، إضافة إلى أنه كان يرى الرواية بالمعنى بشروطها وضوابطها المعلومة عند أهل الفنّ.
أما الإمام مسلم فإنه اعتنى بالفوائد الإسنادية، ولذلك كان يروي الحديث في أنسب موضع له ويجمع طرقه وأسانيده في ذلك الموضع.
أما الشك الذي كان قد يطرأ للإمام البخاريِ، فهذا ليس في الرواية التي عرف مخرجها، وإنما في كلمة تؤدي المعنى المعلوم للحديث وهذا قليل جداً في الصحيح الذي صنّفه رحمه الله. والذي رآه شيوخنا أن منشأ هذا الطعن عدم تخريج البخاري أحاديث لأهل البيت بخلاف مسلم الذي روى عن محمد بن جعفر، بينما كان البخاري يعتبر روايته عن أبيه صحيفة ليس فيها سماع حيث وجدها عند أبيه جعفر الصادق. ولما كان من شرط البخاري تحقّق السماع لإثبات الرواية، كانت هذه الصحيفة غير مستوفاة للشروط عنده على خلاف الإمام مسلم.
الخاتمة:
وعليه فمما يؤسف له أن يخوض غمار هذه الصعاب من لم يتحصَن لها، ويتبوّأ المواقع العلمية من ليس أصلاً لها. فيسيء حيث قصد الإحسان. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة