أمسي الذي كان غدي (1) ساكنة الحنايا
على عتبة باب بيتها وقفْتُ، ولمواقع قدميها تأملْت، وعلى آثار خطوها مشيْت، ومن ثمار غراسها قطفْت، وتحت ظلال عريشها جلسْت، ومن كأسها شربت وشربت، فما ارتويت.
لا أدري، أأفخر بـ"أم ضياء" وأعتز؟ أم أرثي لحالها وحال مثيلاتها؟ فقد قضتْ جلَّ عمرها المديد في زمان ومكانٍ كان الشائعُ فيهما هو إقصاءَ المرأة عن الحياة؛ ظنًّا من المجتمع - وإنَّ بعض الظن إثم - أن دور المرأة لا يعدو تفريخَ الأجيال، ولا بأس من فُتات علمٍ يقدَّم على أغصانٍ جافة؛ كي يسمح لها بقراءة كتاب الله - تعالى - بصورة لا تتجاوز أبدًا حالَ متفوقي أطفال الروضة! فذاك هو السقف الأعلى المسموح به، وإن تجاوزتْه أيةُ امرأة يُخشى عليها أن تتعلم كتابة الرسائل؛ فتلج حِمى الحرام بإجماع أهل بلدتها في ذاك الزمان!
أما إن تجرَّأتْ إحداهن قائلة: إن سيدتَنا الحصان الرَّزان السيدة عائشة - رضي الله عنها - كانتْ أعلمَ أهلِ زمانها، كان على المتحدِّثة عندها أن تُمسك قرطَها؛ قبل أن يتطاير لشدة اللطمة "الإقناعية" المتوقَّعة من يد أبٍ، أو عم، أو خال، أو ابن عم، وهذا الأخير كان يتمتَّع بحقوق شتَّى، لا تعرفها إلا المجتمعاتُ الغارقة في بحار ظلمات جهل العادات المنافرة لهدي النبوة، الذي جعل طلب العلم فريضة للذكر والأنثى.
"أم ضياء" كانتْ تخنقها الضغوطُ، فتأبى أن تموت؛ بل كانت تخرج من كل أزمة أشدَّ صلابة وبأسًا؛ إذ كانت تتمتع بشخصيةٍ قوية، وذكاء حادٍّ، وتمتلك عينين لامعتين، حادتي النظر، قويتي الأثر؛ إذ يكفي من حولها التفاتةٌ ونظرة؛ ليسكن أكثر من متحرك، ويتحرك أكثر من ساكن، لفتة واحدة منها كفيلة بأن تعزز أو تقزز من الموقف ذاته.
"أم ضياء" كانت تجيد قراءة الوجوه وتذكرها جيدًا؛ لكنها ربما نسيتْ قراءة الحروف، طول صمتها، وطيب حديثها وعمقه إن تحدثت، أكسبها مهابةً، وجعل الهيبة تنطلق منها كما تنطلق أشعةُ الضوء من مصدر منير، أضف إلى ذلك عمقَ إيمانها، وعظيمَ ثقتها بالله - سبحانه وتعالى.
كما كان لها مواقفُ أكسبتْها أثرًا طيبًا لا يمحى؛ فقد كانت تحرص على الجلوس إلى جواري وأنا أذاكر دروسي طوال المرحلة الابتدائية، ولعلها كانت في العقد الخامس من عمرها، وكنت أداعبها إذا اشتقتُ إلى عذب ابتسامتها، فأنشد بصوتي الأجش: "جدتي، جدتي، حلوة البسمة"، فأفوز بابتسامتها، وتطمئن أشواقي إليها.
حقيقة، أجدني لا أستطيع الفكاك من أسْر طيفها، فإن نسيتُها ساعة، تذكرتُها ساعات، وإن تجاهلتها صباحًا، حيَّاني طيفُها مساء، ألأنَّها كانت طريفة ظريفة؟ أم لأن فكرها كان متَّقدًا، وإحساسها بمن حولها متدفقًا؟ فقد كانتْ تحب العطاءَ لأبعد الحدود، رغم أنها كانت خجلَى وحزينة؛ لأنها كانت لا تستطيع فكَّ الحرف، أضف إلى ذلك جهلها الكبير بمعاني الكتاب العظيم، ومقاصد الشرع الحكيم.
أذكر أنها كانتْ تطلب مني - رغم صغر سني - أن أقرأ لها من كتاب الله، فأدهش لشلالات دموعها المنسكبة، ويثور في ذهني ألْفُ سؤال عن سبب هاتيك الدموع؛ إذ لم أكن أظنُّ أن صوتي الأجش، وأخطائي الجسيمة التي تتجاوز عددَ الحروف التي أقرؤها - كانت سببًا في انسكاب دموعها، ربما كان في صدرها شيءٌ ما، أبدتْه الأيام، وتبلور في سؤال: "هل يمكنك أن تعلمني القراءة يا صغيرتي؟!".
وافقتُ فورًا، وبدوتُ متحمسة لفكرتها، وحشدت كلَّ جهودي في تعليمها، فحصلَتْ على المركز الأول في صف "محو الأمية" المسائي، الذي كانت تسير إليه مشيًا على أقدامها حوالي نصف ساعة يوميًّا، وأنا أسمعها تدندن:
لاَ تَقُلْ: فَاتَ الأَوَانْ وَانْطَلِقْ فَالْوَقْتُ حَانْ
إِنْ أَرَدْنَا وَانْطَلَقْنَا بِالْمُنَى جَادَ الزَّمَانْ
وتكمل:
أُمَّتِي كَانَتْ وَتَبْقَى بِالهُدَى تَسْمُو وَتَرْقَى
تَقْطَعُ الأَيَّامَ شَوْقًا لِلسَّمَا فِي كُلِّ آنْ
ثم تقول بنبرة واضحة:
إِنْ نَفَضْنَا الْوَهْنَ عَنَّا إِنْ سَأَلْنَا اللهَ عَوْنَا
تُسْلِمُ الدُّنْيَا إِلَيْنَا مَرَّةً أُخْرَى الْعَنَانْ[1]
كانت تلتهم العلمَ الْتهامًا، وتقرأ كل ما يقع تحت يدها المتوضئة، وبدأتْ تترصد لدورات قراءة القرآن الكريم، وفي عقدها السادس بدتْ وعاءً للعلم والبحث والدراسة، سريعة التطور والتقدم؛ مما أذهل مَن حولها، وكأنها كانت تنتقم من قيود حديديَّة كبلتْها منذ الصغر.
وتتابعتْ دوراتها الدراسية، حتى غدتْ في غضون سنوات قليلة معلِّمةً في دار القرآن التي تخرجتْ فيها، مفعمةً بالعطاء والحيوية والنشاط، تنشر البِشْرَ والتفاؤل، وتنثر الحبَّ والعطاء، وكم كنتُ أتأمل مسيرتها، فأقول في نفسي: "أرادوا لها أن تكون ذرةَ غبار في ذيل الركب، فأبتْ إلا السيرَ في مقدمة الركب، وتسلم زمام قيادته؛ بانضمامها إلى زمرة الذين تعلَّموا القرآن وعلَّموه، ولربما تأجَّج عطاؤها يوم تقاعد أترابها وهن يطرقن أبواب العقد السابع".
والآن أستغرق في ذكراها، وأبحر في أيام عشتُها معها، بعد أن نفضت يدي لحظة وداعها، وأنا أوسدها التراب، حيث بدتْ عروسًا في غاية الجمال، وكأني بها قد استُبدل بها أخرى، ألا رحمها الله، كم تركت من آثار! ولعله كُتِبَ لها ما قدمتْ وآثاره، وحقَّقتْ قوله - سبحانه -: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ [يس: 12].
أخيرًا:
أسائل نفسي: "هل يمكنني أن أسجل على شاهد قبرها: هنا ترقد امرأة عاشتْ أمية، وماتتْ معلمة لأعظم كتاب عرَفتْه البشرية؟".
.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة