مملكتي
نظرتْ من شقِّ الباب كعادتها كلَّ ليلة، حين تجد المِصباح الثانوي مُضاءً؛ ممَّا يعني بالنِّسبة إليها إشارةً خضراء تسمحُ لها بالعُبور إلى ضِفاف مملكتي، واقتحام خَلْوتي، والتطفُّل على جوِّ الوحدة الذي ألفتُه؛ لتطرحَ دفعةً واحدةً كلَّ ما جمعتْه من أخبارٍ طوالَ النَّهار.
وككلِّ ليلة بادرتْ بطرحِ سؤالها المعتاد: ألا تملِّين الكتاب؟!
طرحتْه كمن يستغني بعبارةٍ ما عن كلمة "مساء الخير"، ولم تنتظر جوابًا، بل أخذتْ تُحدِّثني عن حفل الزِّفاف الأُسطوري الذي حضرتْه، وبأنَّني خسرتُ نِصفَ عمري؛ كوني اعتذرتُ عن مرافقتها إلى هناك.
وأتَّشحُ بالصمتِ فلا أُخْبِرها بأنَّني كسبتُ نصفَ عمري في حضور كتاب!
كانت على وجهها بقايا أصباغٍ ملوَّنة، تراوحتْ بيْن الأحمر والأسود والذَّهبي، وكأنها تحكي بصمتٍ عن فرحٍ أُسْرِج خيولُه، ورحل عنها للتوِّ، تاركًا آثارَ حوافر الخيل تسردُ ملحمةً من البهجة لا تحدُث كلَّ يوم.
تركتُها مستمتعةً بسَرْد تفاصيل فستان الزفاف، ومِشْية العروس، ولون الكعكة، وغرقتُ في عالمي الخاص.
كنتُ في حالة انتشاءٍ تامٍّ، أقفزُ بيْن السُّطور وفوقها، أو أجاريها فأَسيرُ مع الحروف وإيقاعاتها، أُسجِّل على الهامش الأبيض ما أستنبِطُه من أفكار، أو أشاكسُ الكاتبَ أحيانًا بتعقيبٍ مخالِف، فيُخيَّلُ إليَّ أنه يقرأ ويتجهَّم، ويقفُ موقفَ الدِّفاع، أو يتقبَّله برحابة.
تسألني أُختي - لتتأكَّدَ من وجودي المعنوي معها - سؤالَها البريء، تحاولُ العثور منِّي على جواب، كغريقٍ في لُجج البحر، طوْقُ نجاته كلمة، وأخادِعُ نفسي، وأخدعها، فألْقِي الكلمة "أَجَل، معكِ حقٌّ"!!
فتبتسم، وتتابعُ حكايتَها، وقبلَ أن أعلنَ تذمُّري، وأعتذر لانشغالي لحظةَ نهايتها، تنتقلُ على الفَوْر إلى حَدثٍ آخر مهمٍّ، وعن خمس ساعات متواصِلة قضتْها أمامَ الحاسوب ترجو زميلتَها نجلاء أن تُصالِحَها، عبثًا دون جدوى.
أحاولُ التدخُّلَ في الأمر، أشعرُ بوخزاتٍ في ضميري، كلَّما ذكرتْ لي ذلك الكمَّ من الوقت المُهْدَر، أخبرها أنَّ الصُّلح ينقضي بسلام وابتسام، وأنَّه بإمكانها إنهاءُ مذاكرة الدروس المستعصية عليها في فترة زمنية مقارِبة لتلك، فأجدُها تجيبُ بضجر: "لا يمكنني الدِّراسة وأنا أفكِّر فيها"!
يَعتريني شيءٌ مِن حزن، ممزوج بقليل مِن يأس، أعودُ إلى صفحاتِ كتابي معتذرةً عن تقصيرٍ غير مقصود، يتراءى لي الكاتبُ عابسَ الوجه، وقد استخففتُ بأفكاره المطروحة، والتفتُّ عن جهدٍ في التأليف قضى فيه أعوامًا طوالاً مِن حياته، وأتمتمُ باعتذار، وتتمتمُ هي بعبارات الأسَف والحزن، وكثير من الألَم والتَّوجُّع.
ألتفتُ إليها فزعة، أسألها - وقد طار صوابي -: "هل أصابكِ مكروه"؟!
تترقرقُ دمعةٌ في عينها، وتقول: "سيموتُ دون شكٍّ، سأموتُ أنا إن فعل"!!
يخفقُ قلبي سريعًا، أكاد أسمع صوتَ كلِّ خفقة، أتساءلُ في جزع: "مَن يكون"؟!
أخشى أن تذكر لي اسمَ أحدٍ من العائلة، قد حَدَث له مكروه وأنا في عُزلتي، تُنقذني سريعًا، تناديني من القِمَّة الشَّاهقة التي تصاعدتْ إليها أوهامي؛ لتجعلني أرتطمُ بالحقيقة.
"إنه شادي، الممثِّل! لقد أصيب في هذه الحلقة بحادِث، ونُقل إلى المستشفى، أخْشى أن يموت".
أُخفي غيظي، وأُطمئنها: "ما دام هو البطل، فلن يموت، أؤكدُ لكِ ذلك"!!
في أحد تجاويف عَقلي أسمعُ نقرًا على كلمة "بطَل"، ويشرع أحدُ المؤرخين بسَرْد قصص موجزة، عن أهمِّ الأبطال الذين غيَّروا مجرى التاريخ على مرِّ العصور، يعرضُ القصص بحيادٍ وتشويقٍ في آنٍ معًا، أكاد ألمحهم بهيئاتهم وأزيائهم، برُجولتهم وأسلحتهم، بمقولاتهم التي ظلَّت نبراسًا للأُمم على مرِّ العصور، وانتصاراتهم التي حرَّكت عجلةَ التَّاريخ للأمام خطوةً، ويبقى داخلي يتردَّد صوتُ الانكسار ذاته، وحطام آمالٍ بتُّ أبكي على أطلالها في صفحاتِ الكُتب.
أنتشلُ نفسي مِن رَماد أحلام تحترق، وأحاولُ للمرَّة الألْف جذْبَها من عالَمِها إلى مملكتي، أتخيَّرُ كتابًا شائقًا، وكُلِّي أملٌ أن أتحدَّى به كلَّ المغريات في عالَمها، وبحبٍّ ألتمسُ منها موافقةً ما "تعالي نقرأ معًا، سيعجبكِ حتمًا هذا الكتاب...".
هذه المرَّة أكتشف بأنَّها هي التي لا تسمعني، وبأنَّ فجوةً تتسع باستمرار بيْن عالَميَنا المتناقضَين.
تطبعُ على جبيني قُبلةَ وُدٍّ، وتمضي، وهي تردِّد أنَّها استمتعت كثيرًا بحديثنا معًا هذه الليلة!
أهرع إلى مكتبتي، أستشيرُ كلَّ الحكماء والعلماء، والمفكِّرين والخبراء، الذين قدَّموا نِتاجَ عقولهم لي هديَّة، وللإنسانيَّة، على طبق مرصَّع بالأحجار الكريمة، فأقطف مِن خبراتهم وتجارِبهم، وحصاد عقولهم ثمرةَ الأمل، وأمضي إليها في ليلةٍ جديدة؛ لأقتحمَ عليها مملكتها الخاصَّة، عازمةً على توقيع عقْد مصالحة وتبادل فكريٍّ بيْن المملكتين.
أطرقُ بابَ غرفتها، وأَلِجُ إلى هناك مطمئنة، أجدها قد أطفأتِ النُّور، فأبتسم، ولا أكترثُ لذلك، فبيْن يدي، وفي قلبي مشعلٌ للأمَل!!
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن