المطلقة
ماذا تقول يا بني؟... المطلقة... تريد هذه المطلقة زوجة لك... يا سبحان الله!.. من بين العشرات من الفتيات وقع اختيارك عليها...
كان خالد يبحلق في وجه أمّه بنظرات زائفة، بينما كانت أصابع يديه تتحرك بعصبية... يفرك بعضها البعض، يفكر بطريقة ذكيّة يقنع بها والدته، بأن يتزوج حسناء، ابنة الجيران، التي عادت إلى أهلها مطلقة، مكسورة الخاطر، مهيضة الجناح، بلا ذنب جنته... يريد زوجته ترى يعينيه، وتسمع بأذنيه... طلباته أوامر لا تناقش... كلمة أنت طالق يتغنّى بها صباح مساء، فكانت هذه الكلمة كالسيف المصلت على رقبة حسناء... مما دفع هذه المسكينة أن تكون عبدة لزوجها خوفاً من الطلاق الذي يهددها به...
ولكن ذلّها لزوجها وخضوعها له، لم يجنبها هذا المصير المؤلم...
فتح خالد فمه ليتكلم وما كاد يفعل ذلك، حتى صرخت أمه في وجهه:
*ستدافع عنها وتغضبني... أمن أولها! تعلمت الدفاع عنها والوقوف في وجه أمك...
اندفع خالد نحو أمه مكبّاً على يديها يقبلهما، واضعاً رأسه في حجرها كما كان يفعل وهو صغير...
أخذت سورة الغضب التي انتابت أمه تتلاشى رويداً رويداً... وبدأت تمسح بيديها رأس ابنها، وتعبث بشعره كطفل صغير...
*يا بني أريدك سعيداً مع زوجتك، لا شيء ينغصّ عليك سعادتك... إعجابك بها جعلك تندفع إليها دون تروٍ وتمحيص...
غداً وأنت معها في أوج سعادتك، قد تتذكر زوجها الأول، وكيف كان يغازلها ويلاعبها، وهي مستجيبة له، سعيدة معه... فإذا بالغيرة تحرق فؤادك، وتمزقك فتشعر بالنفور منها دون إرادتك...
إذا قالت لك أحبُك أن تكون هكذا، ستظنّ أنها تريدك أن تكون كزوجها الأول وهي لا تقصد هذا...
دهش خالد من كلام أمّه، وذكائها مع أنها طيبة إلى حد السذاجة، فالمنطق الذي تتكلم به معقول، ولكن هناك حيثيّات لا بدّ منها...
فالغيرة التي تحدثني عنها أمي سأشعر بها.. لا بدّ من ذلك، في أول الأمر، ومع مرور الزمن، والتأقلم مع الواقع، سأتغلب على هذه الغيرة الحمقاء بإذن الله... فالحب إذا كان موجوداً بيني وبين حسناء، فسيخفف الكثير من المعاناة، ويقرّب المسافات بيننا، ويجعل الطريق ممهداً للحياة السعيدة...
هزّ خالد رأسه مقتنعاً بما وصل إليه من حل معقول، وأخذ يبرهن لأمّه ويقنعها... ولكن لا حياة لمن تنادي، فقد قاطعته والدته بعصبية قائلة:
*لنترك هذا الكلام جانباً، وقل لي: لماذا طلّقها زوجها إذا كانت كما تقول على خلق رفيع؟..
وحينئذ تذكر خالد أخته شيماء، الرزينة الهادئة، ومع ذلك فهي في خصام دائم مع زوجها... كم من مرّة تدخّل فيها حكم من أهله وحكم من أهلها لفضّ الخصام بينهما، ولصرف زوج أخته عن تصرفاته الصبيانية، ولكنه لا يلبث أن يعود إلى سيرته الأولى، إذاً أخته على شفا بركان انهيار حياتها الزوجية بلا ذنب اقترفته..
راوده هذا التفكير وهو يحاول دفعه شفقة بأخته الحبيبة... ولكنه رأى أن هذا التفكير، وتر يضرب عليه كيف يشاء... لإقناع والدته بصواب موقفه.
أمسك راحة والدته وضمّها إلى صدره قائلاً لها:
*أمي لماذا كانت شيماء حزينة مهمومة ليلة أمس... كم حزّ في نفسي مرآها وهي تبكي بصمت كئيب...
قطّبت والدته وجهها في حزن عميق، وتنهدت تنهيدة مقهورة، ندّت عن قلب جريح، وقالت بصوت مبحوح:
*إنه زوجها.. سامحه الله... ينكّد عليها كل لحظة، سعادته في تعاستها... مع أنها طيبة القلب باعتراف الجميع... ولكن.. كنّا نتكلم عن حسناء... ما الذي ترمي إليه بسؤالك هذا عن أختك؟..
*أدرك خالد بطرف خفي، أنه ضرب على الوتر الحساس من قلب أمّه فقال بصوت متقطع:
*- يا أمي لو حصل الطلاق (لا قدّر الله) بين أختي وزوجها... فالخصام الدائم بينهما سيقطع هذه الشعرة التي تربطهما ببعضهما...
ضربت أم خالد على وجهها وصدرها قائلة:
*لا سمح الله، فال الله ولا فالك..
*يا أمي أنا أمقت هذا المصير المؤلم لأختي، فهي حبيبتي وأختي، ولكن لنفرض هذا الفرض وهذا ليس بالمستحيل... كيف ستقبلين فكرة: ابنتك مطلقة... أترضين أن ينظر الناس إليها نظرة ازدراء واحتقار... ألا تتمنين حينئذ أن يتقدم لخطبة ابنتك زوجٌ طيب القلب، يعوضها عن تعاستها مع زوجها الأول... أم تبقى حبيسة البيت والهموم، حتى تموت كمداً، كما يحصل لبعض المطلقات...؟!!
انهمرت الدموع من مقلتيّ والدته بحرارة، كأنها تتوقع هذا المصير لابنتها بين الحين والآخر، وترى الموت أهون منه... شعرت الأم بحزن قطّع نياط قلبها... ورأت أن كلام ابنها معقول جداً... والذي ينطبق على ابنتها ينطبق على
بنات الناس، فهل على رأس ابنتها ريشة... وإذا تقبّلت هي واقع حسناء فسيتقبل الناس غداً واقع ابنتها إن حصل لها ما حصل لحسناء...
نظرت الأم إلى ابنها نظرة باسمة، وأمسكت أذنه مداعبة:
*عرفت يا شقي كيف تقنعني وتحبّب إلى حسناءك هذه... غداً إن شاء الله سأذهب لأخطب لك حسناء، وعليك يا بني أن تعوضها عن أيامها الخوالي، فهي امرأة مكسورة الجناح لقد عانت كثيراً من طليقها... فأنا أعرفها جيداً وأعرف والدتها التي كانت تخبرني عنها بنتها أولاً بأول، فهي مسكينة لا حول لها ولا قوة... ولكن الشيطان- الله يخزيه- جسّم لي طلاق حسناء على أنه جريمة كبرى هي السبب فيه..
مبارك يا بني إن شاء الله زواج موفق..
أهوى خالد على قدمي أمه مقبلاً إياهما، وعلى يديها ورأسها، ودموع الفرح اختلطت مع دموعها الطاهرة...
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن