وقفات جسورة.. بين النِّعم الموفورة والحقوق المهدورة.
عُرِف دين الله الحق بأنّه دين التوسّط، والاعتدال في أمور الدين والدنيا معًا.
ففي أمور الدين أمر الله تعالى رسوله، وأمَّته بما ليس فيه حرج، ولا مشقّة في عباداتهم كمثل القيام والصيام، وعنوان ذلك قوله تعالى: {ما جعل عليكُم في الدِّين من حرَج}.
ويمتد ذلك النظام الربَّاني الوسطي إلى أمور الدنيا من مأكل ومشرب، لقوله تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنَّه لا يُحبّ المُسرفين}.
ومن خلال هذا المبدأ الإسلامي الأصيل في التعامل مع سائر الأمور؛ نلِج إلى جوهر حديثنا، ألا وهو الحديث عن النّعم الموفورة والحقوق المهدورة، وما هو الرابط الجامع بينهما.
إنّ من حكمة الله سبحانه في العطاء والمنح، أنّ ذلك يقوم على أساس التسخير من الناس بعضهم لبعض، لأجل تحقيق المصالح للجميع من دون أن نستأئر أحد بما لديه فيمنعه عن غيره.. وفي ذلك يقول تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍۢ دَرَجَٰتٍۢ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}.
ولمّا خرج أكثر الناس عن هذا التقسيم الربَّاني الحكيم، واعتمدوا منهجهم القاصر في فهم شؤون الحياة؛ فسدوا وأفسدوا، ولنا في النّظامَين المعاصرَين الرأسمالي والإشتراكي أمثلة وعبر في ذلك.
فأما النظام الرأسمالي فيمتلك الثروات ورأس المال في العالم، ونظامها الاقتصادي، ويقوم على تجميع المال بأيدي حفنة من الناس، يمتصّون به دماء الناس، ويأكلون حقوقهم ويهدرونها في المراباة والربح الفاحش، ليصل في داخل تلك البلدان إلى حرق محاصيل القمح إذا لم تتوافق أرقام الأرباح فيه مع ميزانيتهم ويفضّلون إتلافها أو رميها في البحر على أن تصل إلى فقراء العالم.
وفي خارج تلك الدول إلى غزو البلدان الضعيفة، وسلب ثرواتها ونهب خيراتها وجعل شعوبها لقمة سائغة للابتلاع والهضم والإذلال.
وأما النظام المقابل المسمّى إشتراكيًّا، فهو جاء كمن يريد إنقاذ عين المريض بالرمد فأعماه عن النظر تمامًا، فتحول بذلك النظام الجديد: الرأسمالي من الأفراد إلى الدولة التي تستأثر بكل ممتلكات الناس وتصادرها وتُؤمِّمها وتجعل الناس كلهم فقراء إليها لا يتجاوز ما يملكونه حدود غيرهم، فهم أرقامًا في آلة صماء، وهم لا يملكون إلا العمل لأخذ حفنات من الغذاء ببطاقات توزّع عليهم، ينتظرونها في صفوف طويلة. بينما أقطاب هذا النظام الهالك يأكلون بملاعق الذهب، ويملكون الأموال الطائلة المودوعة في البنوك الرأسماليّة زورًا وبهتانًا.
والإسلام وهو دين الله الصالح لكل زمان ومكان لم يقع بما وقعت به الأنظمة تلك، ولا كل من يدور في فلكها؛ فهو دين حارب اكتناز الذهب والفضة وجمعها وعدم إعطاء حق الله فيها بالعذاب الأليم.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
ولم يترك الإسلام النّعم الموفورة التي أنعمها الله على عباده بأيدي قلّة من الناس، فإنّ ذلك من الظلم بمكان والله لا يحبُّ الظالمين.
وهذا يشمل نعمة العلم وطلبه (اطلبوا العلم ولو في الصين)، ونعمة العمل، قال تعالى: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولًا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور}.
وممّا يعزّز تقدم الإسلام في تشخيص الداء، ومعرفة الدواء، ما جاء ذكره على لسان خليفة وصحابي.
فأما الخليفة فهو سيدنا علي كرّم الله وجهه الذي قال: "ما رأيت نعمة موفورة إلا وبجانبها حق مُضيَّع"، ومن يرى الواقع الذي نحيا به في أيامنا؛ يجد الكثير من الأدلة على عِظم قدر ومعنى هذا القول العظيم حيث يعيش العالم كله في كثير من النعم الموفورة التي تضيع تحت أقدام الطغاة البغاة الذين يفسدون في الأرض ويهلكون الحرث والنسل، ولنا مثال يمكن الاكتفاء به وهو نظام الربا الفاحش الذي جمع المال تحت رحمة بنوك الربا والفوائد الربويّة المحرّمة وعطّل الكثير من فوائد المال الواجب تحويله لإصلاح المجتمعات والنهوض بها وجعل حقوق الفقراء مهدورة بمنعها من الاستفادة من الأموال التي تُكنز ويُمنع توزيعها وإعطاء حق الفقراء فيها.
وأما الصحابي الذي حدد الدواء فهو سيدنا أبا ذر الغفاري رضي الله عنه، الذي قال قولته المشهورة: "الناس شركاء في ثلاث (الماء والكلأ والنار)".
فأما نعمة الماء؛ فهي لا تقدَّر بثمن مادي مهما عظم مقداره؛ لأنها الحياة بعيْنها وبدونها لا حياة للأحياء فيها.
قال تعالى: {وجعلنا من الماء كل شيء حيّ}، وهذه النعمة الربانيّة الموفورة ينبغي أن يكون الناس شركاء في الحصول عليها لأنها من حقوقهم البديهيّة، وهذا الذهب الأبيض السائل قد فقد الكثير من الأحياء البشر منهم والأنعام وحتى الزرع والنبات حقوقهم فيه، وتحوّل لأيدي الموسِرين المترفين ببناء السدود لمنع وصوله لبلاد الفقراء في العالم، وإما تمّ هدره في بلاد المسلمين بتحوّله إلى البحر وعدم إفادة البلاد والعباد منه.
وأما نعمة الكلأ وهو العشب الأخضر، ويدخل في معناه كل غذاء إنساني، فإن هذه النعمة يعيش الناس فيها في تفاوت رهيب بين بئر معطلة وقصر مشيد.
وأما النار فهو يدخل في معناه كل وقود مشتعل بما يشمل النفط الذهب الأسود ومشتقاته.
وقد أنعم الله تعالى على كثير من بلدان المسلمين بهذه النعمة فأضاعوها، إما كنزًا لأنفسهم وإما هدية لأعداء الدين لتتحوّل سلاحًا وغمدًا في صدور أنباء الأمّة. نسأل الله السلامة في الدين، والحمد للّه رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن