الحرب الضروس بين: الهدم والبناء في النفوس!
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (172)} الأعراف.
من هنا نبدأ القول أن النفس البشرية التي خلقها اللّه تعالى، والتي كانت في عالم الذّر، قد فُطرت على توحيد الخالق بمعرفته ربًّا، وتوحيده خالقًا، وعبادته حقًّا.
وعندما تحدّث القرآن عن النفس البشرية، ذكرها في أحوال متعددة مختلفة، ويمكن جمع تلك الأحوال في مراتب ثلاثة أعلاها درجة: وهي النفس المطمئنة وأوسطها وهي النفس اللوّامة وأدناها وهي النفس الأمّارة بالسوء، وكل أحوال النفس وما يصدر عنها يعود لتلك النفوس الثلاثة، ويدور في فلك قضائها.
فأما النفس الأولى وهي: المطمئنة فجاء ذكرها في قوله تعالى:{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} الفجر
وأن تكون النفس مطمئنة يعني أنها قد بلغت درجة الرضا المتبادل بين العبد وربّه، قال تعالى: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} البينة، والنفس المطمئنة هي بالدرجة الأولى نفوس الأنبياء، والأولياء الأتقياء؛ فأما الأنبياء فقد جمعوا مع العصمة الخاصة بهم، مجاهدة النفس إلى حد أنها أصبحت مطواعة منقادة لهم.
وأما الأولياء المتقين فهم قد جاهدوا أنفسهم جهادًا كبيرًا، حتى بلغوا بها المراتب العليا في تحلية النفوس الزكية.
ولنا أمثلة في نفوس الأنبياء النبي الأعظم رسولنا محمد صلى اللّه عليه وسلم، والذي هو القدوة والأسوة، وقد شرح اللّه صدر رسوله عندما أرسل له ملكًا وهو ما زال فتيًّا فشقّ له صدره، ونزع نصيب الشيطان من بين جنبي قلبه، وهو كما ذكر في سورة الشرح في قوله تعالى: { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)} وما تحقق وضع الوزر، ولا رفع الذكر، دون أن يسبقهما شرح الصدر.
وليس أنه سبحانه شرح صدر نبيه، واستلّ السخيمة منه، أنه قد تحقق ذلك بعده من تزكية النفس ومجاهدتها، والتغلب على نوازع الهوى فيها من دون اجتهاد منه عليه الصلاة والسلام، وما عبادته عليه الصلاة والسلام إلا برهانًا على ذلك.
وقد سار الخلفاء والأولياء من الصحابة رضي اللّه عنهم على منهج رسولهم عليه أفضل الصلاة والسلام، في تزكية نفوسهم وتهذيبها ليصلوا إلى درجة النفس المطمئنة.
فكان أبو بكر رضي اللّه عنه، من الذين زكّوا أنفسهم فزكاهم اللّه، وقدموا كل أموالهم ابتغاء مرضات اللّه تعالى، حيث جاء الصديق بماله كله، ووضعه بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، ولما سأله الرسول الكريم صلّى اللّه عليه وسلم: " ماذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر، قال أبقيت لهم اللّه ورسوله". وفيه نزل قوله تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ (20) ولسوف يرضى (21)} الليل.
وكان سيدنا عليّ كرم اللّه وجهه مثالًا آخر في تزكية النفس بالعطاء والإيثار، حيث دخل عليه وهو على مائدة الإفطار ثلاثة، فقدم لهم طعامه وآثرهم على نفسه. وفيه نزل قوله تعالى:{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)} الإنسان.
وما وصل الصحابة رضوان اللّه عليهم إلى هذه الدرجة العليا من النفس الزكية؛ إلا بعد أن زكّوا أنفسهم بالطاعة فزكّاهم اللّه بالقول والفلاح، مصداقًا لقوله تعالى {قد أفلح من تزكّى}، وقوله سبحانه: {قد أفلح من زكّاها} وهل لتزكية النفس طريق للوصول والقبول؟ أجل، إن اللّه سبحانه قد بيّن ذلك في في أربع آيات متواليات في قوله تعالى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}.
وهذه الآيات الكريمة تقودنا إلى الحديث عن أصحاب النفس اللوّامة، وهي من فسّر معناها حبر الأمة سيدنا عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنه، بقوله: "هي النفس اللؤوم التي تندم على ما فات وتلوم عليه". وللوصول إلى هذه النفس والتي مدحها اللّه تعالى عندما أقسم بها ولا يُقسم اللّه سبحانه إلا بعظيم. أقول لا بدّ أن تخضع النفس إلى جهاد لا يقل عن الجهاد في أرض المعركة بل هو أكثر منه، كيف لا، وقد قال عليه الصلاة والسلام يومًا لأصحابه: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قالوا وما الجهاد الأكبر يا رسول اللّه؟ قال: جهاد النفس". وليس معنى ذلك إعلان العداوةعلى النفس، لا بدّ من الجمع بين اللين والرفق حينًا، وبين الحزم والشدّة حينًا آخر كما يتعامل مع الطفل في حضن أمه، والشاعر يقول
والنفس كالطفل إن تهمله شبّ على حبِّ الرضـــــاع وإن تفـطمه ينفطــم
ومعنى ذلك أن النفس حالها كحال الطفل لو لم يتم تقييده ومنع ما تشتهيه نفسه من رفض الفطام، لما أمكن تدارك ذلك حتى بعد أن يصبح كبيرًا.
ولو أتينا إلى الحالة الثالثة للنفس، وهي أدناها درجة، والتي سماها القرآن الأمّارة بالسوء في قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} يوسف. ومن كانت نفسه كذلك، غلب على صاحبها الشر والأذى، واتباع هواه وغلبه الشيطان، ولقد ذكر القرآن نماذج لمثل هذه النفوس ومنها ولدَي آدم عليه السلام، حيث أنه سبحانه قد تقبل من أحدهما قربانه، ولم يتقبل من الآخر، فتوعد الأخير وهو قابيل أخيه هابيل بالقتل، لقوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)} المائدة.
والمثل الثاني في حديث النفس الأمارة بالسوء، هو مع إخوة يوسف عليه السلام، الذي ملأ قلوبهم الحسد، والغيرة القاتلة عندما قالوا ما أخبر القرآن عنهم: {قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰٓ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍ} يوسف.
فقادتهم أنفسهم إلى أن يلقوا بأخيهم في غيابت الجب بقصد أن يخلوا لهم وجه أبيهم، ثم يعودوا بعدها قومًا صالحين، فكان أن قال لهم أبوهم يعقوب عليه السلام، ما ذكره القرآن عنه: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} يوسف. وبعد أن قدمنا ما قدمناه في الحديث عن أحوال النفس وما يصلحها وما يرديها وفيما فيه نجاة أصحابها أو هلاكهم.
لا نجد ما هو جامع وما ينبغي استخلاصه في التعامل مع النفس إلا قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} النازعات.
نسأل اللّه السلامة في الدين والدنيا وأن يصلح لنا نفوسنا في سرنا وعلانيتنا.
والحمد للّه رب العالمين
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة