د. فاطمة الزهراء دوقيه
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الرابع

يتّخذ القرآن الكريم في منهجه لتزكية الإنسان وإصلاحه مسارين: فردي وجماعي، والبداية -بطبيعة الحال- بالأفراد الذين يتشكل منهم المجموع؛ فابتدأ كما بيَّن ابن عاشور 'بإصلاح الاعتقاد الذي هو إصلاح مبدإ التفكير الإنساني الذي يسوقه إلى التفكير الحق في أحوال هذا العالم. ثم عالج الإنسان بتزكية نفسه وتصفية باطنه؛ لأن الباطن محرِّك الإنسان إلى الأعمال الصالحة… بعد ذلك إصلاح العمل، وذلك بتفنن التشريعات كلها، فاستعداد الإنسان للكمال وسعيه إليه يحصل بالتدريج في مدارج تزكية النفس'. أي أن محورَي العملية التزكوية القرآنية للإنسان العقل والنفس اللذان منهما ينبثق العمل والسلوك، وأسلوب الحياة وأنظمتها، وهما اللذان يشكِّلان الشخصية الإنسانية.
ولذلك يكون 'إنسان التزكية' المطلوب قرآنيًّا كما وصفه د. العلواني صاحب الشخصية المزكّاة عقلًا ونفسًا، أو صاحب العقلية القويمة والنفسية المستقيمة، حتى يتحقَّق إخراج الإنسان المؤمن العامل العمل الصالح، المُتَّسم بالدافعية العمرانية لأداء مهام الاستخلاف كما يحبُّ الله تعالى ويرضى.
أولًا: تشكيل العقلية القويمة
إنّ أي مشروع للتغيير في واقع المجتمعات لا بُدَّ أن يتّجه أولًا إلى تغيير ما بالإنسان، في فكره وتصوّراته ومفاهيمه. فالحديث عمّا بالأنفس في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمۡ﴾ [الرعد:١١]، هو بالدرجة الأولى عمّا فيها من الأفكار والمفاهيم والتصوُّرات، وكذا طريقة التفكير، التي تنتج سلوكات الإنسان وتصرّفاته. وهناك إجماع لدى المختصّين -كما ذكر الكيلاني-'بعلوم التربية والاجتماع الإنساني على أنّ عجز الأمم عن استثمار مواردها البشرية، ومقدَّراتها المادية إنّما يكمن في القصور الكائن في أجهزة التفكير والإرادة التي تتجسّد في ثقافة الأفراد… والسبب أنّ حلقات السلوك الإنساني -ومنه الأداء الحضاري- تبدأ في النفوس: أي بحلقة الفكرة، ثم حلقة الإرادة، ثم تبرز منها الحلقة الثالثة حلقة الممارسة والإنجاز المحسوس. فإذا أصاب الخلل أو ضرب العطب الحلقة الأولى، امتدت آثار الخلل إلى الحلقتين التاليتين وأفرزت مضاعفاتها في البطالة والعطالة، والعجز والتخلّف. وهذا ما يوجِّه إليه قوله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمۡ یَكُ مُغَیِّرࣰا نِّعۡمَةً أَنۡعَمَهَا عَلَىٰ قَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیمࣱ﴾ [الأنفال:٥٣]'.
وبالنظر إلى واقع الأمّة، فإنّه لا يخفى أنّ ما بها من انهزام وغياب حضاريَّيْن يرجع أساسًا إلى ما بأنفس أبنائها، وما يحملون من أفكار ومفاهيم بوحي من تصوّرات خاطئة ومغلوطة.. فالعقل المسلم متَّهم بجموده وانطفاء فاعليَّته واختلال منهجيَّته، بسبب عجزه عن التعامل مع قيم الوحي الخالدة المحفوظة، وذلك رغم ما يتمتَّع به من مقوِّمات حضارية رافعة ودافعة، تتمثَّل في 'رصيده الحضاري، وميراثه الثقافي، وعقيدته الدافعة، وتاريخه الفكري، والتحدِّيات الكبيرة من حوله التي تتمثَّل في الإنجازات العلمية المذهلة، ومنها الأقمار الصناعية التي تجوب الأرض، فتقدِّم مسحًا شاملًا لحركة البشر ورصدًا كاملًا لتصرُّفاتهم، وثورة المعلومات التي تساهم في استكناه أسرار الكون، واستشراف آفاق المستقبل، ووضع الخطط في محاولة للتحكُّم بالسُّنن والمسارات وتحديد النتائج مسبقًا، حيث لم يعد هناك مكان للأغبياء في عالم العقلاء والأذكياء'.
لذا يظل من القضايا الأولوية في الأمة الاهتمام بالمسألة العقلية والفكرية، لمعالجة ما أصاب العقل المسلم من خلل وعطب، أي أنّ الأمر يتعلَّق بمعالجة المشكلة الثقافية، وإعادة بناء عالم الأفكار وصياغة العقل وتربيته لإقداره على العطاء، وتجاوز المألوف، والحماية من الانكسار.
وهكذا، يمثِّل العقل المدخل الأول في منهج تزكية القرآن للإنسان؛ لذلك ألفيناه 'قد رسم منهجًا سليمًا للتفكير، وخاطب العقل، ودعا إلى الاحتكام إليه، وأناط صحة العقيدة بسلامة العقل، ولم يرسم القرآن للمسلم منهجًا جزئيًا يسلب العقل قدرته على العطاء، وإنما رسم معالم طريق، وخط إطارًا للسلوك، ومنهجًا للعقيدة والتشريع، وترك للعقل البشري حرِّيَّة الحركة المتجدِّدة، وأناط التكليف بالعقل، لكي يكون التجديد منهجًا للنماء والثراء، الذي يسهم في رقي الإنسان وتقدُّمه'.
ولذا، يمكن أن نسمِّيَ هذا الجانب من التزكية القرآنية أنها عملية تشكيلية عقلية يُخضع لها القرآن عقل الإنسان لإحلال تصوراته ومفاهيمه ومبادئه وأفكاره، وطريقته في التفكير والنظر حتى تجري حياته وسلوكاته على أساسها. وسمّى ابن عاشور هذه العملية 'إصلاح التفكير' قائلًا بأنه 'التفكير فيما يرجع إلى الشؤون في الحياة العاجلة والآجلة لتحصيل العلم بما يجب سلوكه للنجاح في الحياتين كي يسلم صاحبه من الوقوع في مهاوي الأغلاط في الحياة العاجلة وفي مهاوي الخسران في الحياة الآخرة'. أما طريقته في فعل ذلك فنبيِّنها تاليًا..
المراجع:
* ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ط٢٠٠٦، ص٦٢.
* يراجع طه العلواني، التوحيد التزكية العمران، ط دار الهادي، ص ١١١-١١٣.
* الكيلاني، التربية والتجديد وتنمية الفاعلية عند المسلم المعاصر، ص٣-٤.
* عمر عبيد حسنة، إعادة ترتيب العقل المسلم، مجلة الهدى، العدد ٢٥، ص١٣.
* فاروق النبهان، قضايا معاصرة تأملات وآراء، ط منشورات عكاظ، ١٩٩٣، ص٤٥.
* ابن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ص٤٧.
يُتبع
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
نبذة عن الكاتب

الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الرابع
أدباء الدَّعوة في انتظار الـمِظلّة
جواب العلم والدين.. لما تعارض عن يقين!
غزّة العزّة.. مَعلَم وشاهد حضاري للأمّة
ترتيب الأولويات.. وأثرها في تحقيق الذات!