ربنا يعلم ما أُعانيه
وصلتْني رسالة مؤثِّرة تحتوي على ثماني كلمات تُلخِّصُ حجم معاناة جِيل بأكمله: "أرجو المساعدة كي أتزوَّج، وربّنا يعلم أدّ إيه"، جلستُ أُحدِّق في هذه الكلمات القليلةِ في مبناها، العميقةِ في معناها، وأتخيَّل حالَ الشابِّ المكلوم، صاحبِ هذه الصرخة، الذي ضاقت به الدنيا وألجأتْه إلى أن يرسل رسائلَ عشوائية على بريد مواقع الجمعيَّات الإسلامية والخيرية كطلقةٍ أخيرة لعلَّها تجد صدًى، أو ترتدّ عليه ببشارةِ خيرٍ، أو لعلَّه فقط أراد أن يصرخَ صرخةً مدوِّية ينفِّس بها عن كربِه، ويفرِّج بها عن همومه، ومهما تصورْنا أو تخيَّلنا حجم المعاناة فربُّنا - جلَّ في علاه - وحده يعلم ما يعاني منه هذا الشَّاب.
تألمتُ كثيرًا لهذه الرسالة التي تُعبِّر عن حرمان صاحبها من حقٍّ من أهمِّ حقوق الإنسانية، وهو أن تسكن رُوحه ومشاعره لرُوح زوجة عفيفة، وأن يجد جسدُه ملاذًا ومنفذًا، وقناةً طاهرةً يرنو إليه كلُّ إنسانٍ سويِّ العافية وسليم الذوق.
ثم ما لبثت أن أخذتْني الأفكارُ لحادثةٍ أدْمَتْ قلبي، وهزَّت وجداني، عايشتُها منذ أيام قليلة، حيث ركبت "سيارة" أجرة، وفيها فتاة في مقتبَل العمر تبدو عليها علاماتُ الإرهاق، وتدافع ما بقِي من دمعٍ في مآقيها، والسائق يحاول بفطرتِه الطيبة أن يُرشدَها وينصحَها نصيحةَ والدٍ، قبل أن تصل لمقصدِها وتغادر "السيارة"، وما أن تبادلنا أطراف الحديث، حتى أخبرني أنه وجد هذه الفتاةَ تهيمُ على وجهها في منطقة بعيدة يقطنها غير المسلمين، وطلبَتْ منه إيصالها فوافق على ذلك، وسألها عن سبب حالتها هذه، فأخبرته أنها تسير في الشارع على غير هدًى حزينة منذ ساعات؛ وذلك بسبب سفر حبيبِها بعد أن قضتْ في صحبتِه أسبوعين من الزمن، فهي قد جاءت من بلد بعيد لملاقاتِه، ثم انتهت مدَّة الزيارة؛ وعلى كلٍّ أن يعود لبلده،
حوقلتُ متأثرًا بما سمعتُ، أمَّا الذي جعلني أشعر وكأني طُعنت بطَعنة خَنجر مسموم في مقتلٍ، فهو كونُ عشيقِها نصرانيًّا تعرَّفتْ عليه عبر الإنترنت، ووعدَها بوعود هُلامية، فسلَّمتْه أشرف ما تملِك ثم نقض غزله.
جلستُ مهمومًا أُفكِّر في حال شبابِ وشابَّات أمّتنا، فكم من صيحة أطلقها العقلاء والدعاةُ والمفكرون ينادون بتيسير أمور الزواج، فجاءت وكأنها صرخةٌ في وادٍ! وكم من خطبة جمعة، وكتاب، ومطويّة، ومقالة ذهبت أدراجَ الرِّياح وكأنها نفخةٌ في رماد!
في ظلِّ غياب دولة الإسلام العادلة، وبيت أموال المسلمين السخيِّ، لا بد لأثرياء المسلمين أن ينهضوا بمسؤوليَّاتهم الشرعية والأخلاقية في الإنفاق، ولا بدَّ للعقلاء والمفكرين والمصلحين أن يضعوا الخطط المنطقية لمعالجاتٍ سريعة وفعَّالة، تلامس حجمَ المشكلات الاجتماعية، وخاصَّة مسألة الشباب ممن تتوق نفوسُهم للزواج، لن أتكلم عن الفسَّاق والفجار الذين "يرشُّون" في جلسة واحدة مئات الآلاف من الدولارات على بغيٍّ أو راقصة، ولن أتكلَّم عن المسرفين والمبذِّرين، بل أخاطب المؤمنين الصالحين من أثرياء المسلمين، الذين قد لا يتردد الواحد منهم في الإنفاق على بناء مسجدٍ وزخرفته مما قد يكلِّفه ملايين الدولارات، بينما يركب رأسه ولا يتجاوب مع مسألة تزويج شابَّين يتطلّعان للقاءِ طهر وعفَّة، بينما تَعجِز إمكانياتُهما
المادية عن ذلك.
وكي لا يبقى كلامُنا نظريًّا؛ أضع بين يديْ من يهمُّه الأمرُ هذه النقاطَ العلاجيَّة من غير تفصيل ولا ترتيب:
• الحثّ على تيسير أمور الزواج من مهور ومتطلبات خيالية تُحيل الزواجَ لمشروعٍ شبه مستحيلٍ لشريحةٍ واسعةٍ من أبناء وبنات أمَّتنا الإسلاميَّة.
• نسف كلِّ العادات البالية والمفاهيم المَقيتة التي تتعارض مع تيسيرِ شرعنا الحنيف، وتكونُ سببًا لإعراض الشباب عن الزواج.
• ترشيد أولويات الإنفاق عند الأثرياء بنصحِهم وتوجيههم، وبيان فضل الإنفاق في تفريج هموم وتنفيس كروب هذه الفئة من الشباب، فليس من الصواب أن يكونَ في منطقة واحدةٍ العديدُ من المساجد الفخمة الفارهة المزخرفة، بينما تجد أغلب شبابِ هذه المنطقة من العزَّاب الذين لا يجدون سُبل الزواج، وإني لأعرف مسجدًا (في وسط بيروت) يكفي ما أُنفق عليه من البناء والزخارف لتزويج نصف شبابِ وشابَّات بيروت.
• التَّشجيع على تعدد الزوجات ضمن الضوابط الشرعية المعتبرة، وخاصَّة توجيه ذلك، والترغيب فيه؛ ليطول فئةَ الأرامل والمطلَّقات واللواتي فاتَهنّ قطارُ الزَّواج.
• إنشاء مؤسسات تُعنَى بشؤون الرَّاغبين في الزواج من الناحية الإرشادية والتوعويَّة والمادية.
• حثّ المستثمرين والمموِّلين على أن يكون جانبٌ من أعمالهم التِّجارية فيه نصيب لخدمة هذه الفئة من المجتمع؛ كبناء وحدات سكنية متواضعة بأسعار معقولةٍ تباع بالتقسيط المريح لمن هو مقبِل على الزواج ممن يدخل ضمن هذه الفئة، فيجمعون بذلك بين الرِّبح المادي والمساهمة العملية في خدمة دينهم وأمَّتهم.
• حث الشباب على السعيِّ الجديِّ والأخذ بالأسباب كافةً التي تعين على إتمامِ خُطوة الزواج، مع عدم التَّراخي والبعد عن اليأس والإحباط؛ مسترشدين بهدي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وواثقين بوعده - صلَّى الله عيه وسلَّم -: ((ثلاثةٌ حقٌّ على الله عونُهم)) ثم ذكرَ منهم: ((الناكحُ يريد العفافَ))؛ [رواه الترمذي - وحسّنه - وغيرُه].
وفي الختام، لا أشك أنَّ كل غيور على الدين والعِرض يحمل همَّ هذه الأمَّة - لديه من الأفكار والخُطوات العملية التي تساعد على المساهمة في حلِّ هذه المشكلة أو التخفيف من آثارها، ولكن يبقى الأهم على الإطلاق أن نبدأ وألاَّ نسوِّف، وألا يكون حالُنا حالَ مَن يتحسّر على ما يرى من غير المساهمة في وضع الحلول وتطبيق ما تيسر منها، وإلا سنبقى نتلقى المزيد والمزيد من الرسائل التي تقضُّ مضاجعَنا تأثرًا بعبارة: (أرجو المساعدة كي أتزوج، وربنا يعلم أدّ إيه).
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة