فلا تقولي لابنك "ما زلت صغيرًا"
ثمة عباراتٌ موروثة تردِّدها الأمهات أمام صغارهن للحصول على منافع عاجلة ومصالح مؤقتة، ولكن كثيرًا من العبارات تلك تتضمن معانيَ غير محبذة، وتعطي آثارًا سلبيةً، وربما مفعولاً معاكسًا، وهي قد تؤثر على المفاهيم والقِيم فتؤدي إلى ما لا يُحمَد عقباه؛ فلننتبه لِما نقوله لأولادنا حفاظًا على دِينهم وخُلقهم.
ينظر الوالدانِ إلى أطفالهما على أنهم صغار لا يجيدون شيئًا، ويتوقعون منهم دائمًا الاعتماد عليهم في كل أمر؛ إذ يجهل الأبناء أشياء كثيرة؛ ولذا يجب أن يتّكلوا على ذويهم، وهذا الاعتقاد صحيح، وهو ينسجم مع سلوك الأطفال؛ فالصغير يجري إلى أمه عندما يخاف، والبنت تطلب المشورة عندما تجد نفسها في ورطة، والطفل يتوقع المساعدة عندما يقع أرضًا، وهذه الأعراض طبيعية وصحية، وهذه الكلمات: "ما زلت صغيرًا" مصيبة وصحيحة، لكن الطفل يميل إلى الاستقلال في فترة معينة، وتبدو مظاهر الاستقلالية في ميل الصغير إلى محاكاة الكبار في تصرُّفاتهم، وتَوقِه إلى الاعتماد على نفسِه مثلهم، وإذا به يحاول القيام بعمل فعَّال منتج كأعمال الكبار، فيلبَس ملابسه بنفسه، أو يرتِّب غرفته وحده دون معونة الآخرين، ويُسَرُّ بإنجازاته تلك، وتزداد ثقته بنفسه، وينتظر الشكر والتقدير، لكن الأم لا تحبِّذ هذه المحاولات؛ لأن سلبياتها أكثرُ من إيجابياتها؛ فهي بطيئة وغير متقنة وغير منظمة، فتُوقِفها، بينما ينصح الخبراء بأنه من الضروري تشجيع محاولات الاعتماد على النفس هذه ولو كانت فاشلة في بدايتها، ولا بد من نبذ هذه العبارة "ما زلت صغيرًا" تمامًا عندما تبدأ مظاهر الاستقلالية؛ حتى لا تموت رغبةُ الولد بالاستقلال والاعتماد على نفسه؛ لأن هذه الرغبة تتركز في مدة زمنية قصيرة جدًّا، فهي مؤقتة، فإن أُحبِطَت توقَّفت، وربما انتهت إلى الأبد، وهذا ما يقوله د. سبوك للأمهات: "فإذا حاولتِ أن تمنعيه من أداء الأعمال التي يستطيع القيامَ بها، أو حاولت التدخل أكثر مما ينبغي فيما يقوم به من أعمال - فإن ذلك كفيل بإثارة استيائه وغضبه، أما إذا حُلْتِ من الناحية الأخرى بينه وبين توفير الفرصة له لكي يتعلم الأشياء التي ترُوقه في السن المناسبة، فإن ذلك قد يُفقِده الاهتمام والرغبة في القيام بها، وإذا أنتِ تركتِه لنفسه كليًّا فلم تحاولي أن تساعديه مطلقًا، فإنه لن يتعلم ارتداء ملابسه، وقد يثبِّط هذا الفشل من عزيمته، ففي وسعك إذًا أن تساعديه بلباقة في الأعمال التي يمكنه القيامُ بها".
♦ وهذه العبارة خطيرة - كما أشار سبوك - لأنها قد تدفَع الطفل إلى التمرد على هذه الوصاية؛ فهو لا يحب أن يكون صغيرًا اتكاليًّا، إنه يميل إلى العناية بنفسه، وإنجاز الأعمال التي يرغَبُ بها وحده، وأمُّه تمنعه، فلا سبيل أمامه غير الثورة والعصيان، أو المحاولة في الخفاء، الأمر الذي قد يعرِّضه للضرر بسبب بعض الأخطاء غير المقصودة.
ولذا ينبغي أن نثق بقدرات الولد، وأن نعهَد إليه ببعض الواجبات المتناسبة مع سنِّه، وهكذا بالتدريج، ولنا أسوة في سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي رعى الغَنَم وهو صغير، وخرَج للتجارة قبل البلوغ بصحبة عمه أبي طالب، ونجح في ذلك، فعلى الأم أن تتيح لطفلها الفرصة للمساعدة في أي مجهود، وأن تُسنِد إليه أية مهمة، لتُشعِرَه بأنه كبير، حتى يحس الولد بكيانه ووجوده، وحتى يعرفَ واجباته ومسؤولياته، وعليها أن تعلِّم طفلَها الطريقة الصحيحة والسهلة والسريعة لإنجاز الواجبات، وعليها أن تتصبَّر على أخطائه، وتشجِّع محاولته، وتهوِّن عليه المصاعب، وهو سيصيب حينًا، ويخفق حينًا، ولكنه سينجح أخيرًا.
♦ وقد يكون الدافع لترديد هذه العبارة: "ما زلت صغيرًا"، هو الدلال والحرص على الصغير من قسوة الحياة، ولكن ذلك لا يقلِّل من خطورة العبارة شيئًا، بل يضيف إلى خطورتها ثمرات أخرى؛ فالأطفال المدلَّلون يلتذون بهذه المعاملة، ويتعوَّدون عليها، ويسرون بترديد هذه العبارة؛ لأنهم يكتشفون عيوب الاعتماد على النفس، فالأُولى تعِدُهم بالدَّعة والكسل والفراغ، والثانية تتوعَّدهم بالتعبِ والجد والعمل! حتى إذا خرجوا إلى المجتمع تعثَّروا واضطربوا لأبسط المعوِّقات، وتوقَّعوا نجدة ذويهم، فإذا اشتد الخطبُ عليهم، فشِلوا وانكمشوا وتراجعوا، وربما شعروا بالحقد على الدنيا والناس؛ فالكائن الحي الذي لا يعتمد على نفسه يخسَر الكثير في معركة الحياة.
♦ وقد ترسِّخ عبارة "ما زلت صغيرًا" الاتكاليةَ العاطفية على الآباء، وهذا يؤدي إلى نتائج ضارة بالطفل؛ حيث يحرمه "النضج"، وهو العجز في التعامل مع الناس، والتكيف مع الظروف، ومعالجة المشكلات، وقد يصبح عنيدًا قاسيَ الطباع.
♦ وقد يتخذ الولد صِغره ذريعة ووسيلة للوصول إلى كل ما يرغب؛ فالصغير يلاطف عادة دون حساب، وتُجَاب طلباته، ويخدُمه الآخرون.
♦ وقد ترسِّخ هذه العبارة "ما زلت صغيرًا" الأنانية عنده؛ لأن الصغير يحب أن يستأثر بالاهتمام، وأن يحاط بالرعاية، وأن تُجابَ طلباته، وتتحقَّق رغباته.
♦ وقد تتغاضى الأم عن تصرفات ولدها السيئة مع الناس، وتُحجم عن تعليمه الآداب الاجتماعية بحجة أن ابنها ما زال صغيرًا على التربية والتوجيه، ويستطيب الولدُ أن يكون صغيرًا؛ لأن الصغير يتصرف كيف يشاء، ويفعل ما يحلو له دون أن يؤاخَذَ، فيتواكل ويقصر في احترام الكبار، وربما أساء إليهم أكثر، وهذا الاعتقاد خاطئ؛ لأن التربية تبدأ باكرًا وبمقدور الطفل الصغير أن يفهم ويمتثل.
♦ وتتهاون الأم - التي تعتقد أن ولدها صغيرٌ - في حقوق الله، فلا تعلِّمه شيئًا من أوامر الدِّين، ولا تنهاه عما نهى عنه الإسلام، فتؤخِّر هذه المعاملةُ ظهور الضمير عند بعض الأطفال، بل قد تحُول دون ظهوره إطلاقًا (وأقصد بالضمير الحس الإسلامي السليم والنفس اللوامة)؛ فالصغير مرفوع عنه القلم في أمثال هذه المجتمعات، فهو لا يؤاخَذ، ولا يعاقب، ولا يؤمَر ولا ينهى، ولا توجَّه له إلا بعض الملاحظات العابرة التي لا تُسمِن ولا تُغني.
ويبلُغ ولدها العاشرة ولمّا تأمره الأم بالصلاة، ويكتمل جسم ابنتها فتمنعها من الحجاب؛ لأنها ما زالت صغيرة، فينشأ أبناؤها ضعافَ الإيمان، قليلي الالتزام، حتى إذا انتبهت الأم يومًا إلى أن أولادها قد كبِروا، اجتهدت في إعادتهم إلى الدِّين الحق، وهيهات أن تُفلحَ جهودها، إلا أن يتغمَّدَهم الله برحمته؛ لأن من شَبَّ على شيء شاب عليه.
"ما زلت صغيرًا" كلمتان يسيرتان، ولكنهما تجُرَّان من ورائهما الاتِّكاليةَ، والتملُّص من المسؤولية.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن