مـطـلـوب مـمـثّـلات!!!
يقولون (الغربة كربة) لمن نأى بالجسد وابتعد عن الأهل والأحباب والولد، ولكن الكربة الأشدّ حين تكون بين الأصحاب والأحباب وتُوحشك هذه الغربة الروحية ويغصّ القلب بوحدة تتزامن مع هذه اللقاءات الودّية. لذلك قرّرتُ أن أغمس القلم في قلبي ليحدّثكم عن هذا النوع من غربة الروح التي لطالما دَوّت مع كل نبضة في القلب كلما وقفنا أمام مشهد من هذه التمثيليّة اليوميّة. وسأعرض السيناريو «المعتاد» لهذه التمثيلية.
إنها نفس الكلمات تجول مع صاحبتها في كل زيارة أخويّة، وتوزّعها عند عقد الصِّلات مع الأرحام بدون تغييرٍ ولا تبديلٍ. فالنسخة واحدة للصديقة والزميلة والقاصية والدانية ولمن تهفو النفس لرؤيتها أو تنفر لمقابلتها، فأصبح الكلّ عندها نسخةً موحدةً؛ فتبيعهم بلسانها سلعة واحدة لا تخفى على صاحبة الفطرة النقيّة، فتعود هذه الكلمات أدراجها في الآذان بعد أن اصطدمت بسياج القلب الصادق وجدار الفطرة السليمة.
نعم، إنّها سلعة جديدة من بضاعة النفاق. سلعة رائجة تُنفقها النساء في مجالسها وزياراتها واجتماعاتها بكلمات سمعتها مراراً وتكراراً وكأنّها قاموسٌ نسويٌّ للنفاق الاجتماعي؛ فالكلام يتلوّن تبعاً للمصلحة وما تقتضيه المنفعة. والمنفعة لا تقتصر على صورتها الماديّة وإنما قد تظهر بصورتها النفسيّة أو الاجتماعيّة.
وأردت أن ألفتَ الأنظار إلى المنفعة النفسية التي قد يسهو عنها الكثير منَّا – والحال هكذا - وهي استجلاب رضا الناس واستمالة قلوبهم، وإذا أردنا مصارحة الحقيقة فإن احتلال القلوب مطلبٌ نفسيٌّ ومقصدٌ شرعيٌّ وضرورة من الضّرورات الاجتماعية, ولكن كما يقول المثل الشعبيّ: (لكل شيءٍ حدود) فَلِمَ لا نرسم هذه الحدود بقلم القاعدة الحاكمة (الضرورة تُقدّر بقدرها)؟
هذه المشاهد والسيناريوهات المتكررة لـ«ممثّلات سينما الحياة» تجعل النفوس تقف أمام تساؤلات تفرض نفسها: هل علينا أن نستسلم للقاعدة المستحدثة (مطلوب للتمثيل ونضمن لك النجاح في الحياة)؟ وهل غدا التمثيل «عادة» لا بدّ منها لتستقيم بها العلاقات؟
ولعل الرؤية لهذه الصورة الضبابيّة في أذهاننا تتوضّح إذا ما ارتدَتِ العينُ نظارةَ الشريعة الغراء واتّسَعَ النظر ليشمل زوايا الموضوع كله.
في الحقيقة أول الخيط وهو التمييز بين اللياقات الاجتماعية والنفاق الاجتماعيّ والتفريق بين المجاملة والمداهنة. إنه خيط الصدق! نعم الصدق؛ فهو الفرق وكلُّ الفرق بين من يتودّد بابتسامة وحسن استقبال وكلامٍ طيّب صادقٍ وبين من تتشقق زوايا فَمِه لابتسامة مصطنعة وكلمة زائفة مُقَنَّعةٍ مدهونة بالكذب ومغلفة بالخداع.
أما المجاملة المعصومة عن الكذب فهي المداراة التي قال عنها ابن بطال رحمه الله: «المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة».
وقال فيها أحمد شوقي:
جامل الناس تَحُزْ رِقَّ الجميع رُبَّ قيدٍ من جميلٍ وصنيع
وعلى هذا فإن التمثيل والتقليد وتجسيد دور «الإمّعة» لا يُغري الاّ النفوس الضعيفة التي تهوى التفلت والانصياع وراء حركات وسلوكيات وحتى سكنات المجتمع الذي يلفُّها. أما النّفوس التي تَرَسّخ الصدق في أعماقها ولاحت الشفافيّة والصّراحة في عيونها فإنها تصدّ التمثيل والممثلين، وتعكس في نظراتها حدّة الصدق المصحوب بالودِّ.
وقبل أن تنالَ «ممثلات الحياة» غايتهن مني سأحوّل المسير وأهاجر في الأثير، أثير كلمتين اثنتين من كلام النبوّة, تلخِّص هذا الحال وتحرّك عدسات العيون نحو حسن المآل في قوله صلى الله عليه وسلّم: «طوبى للغرباء». رواه مسلم.
طوبى لمن حرّرتْ قلبها من معتقد «مطلوب ممثلات» فقبضت على «جمرة الصدق» بيدٍ من حديد، وقلبٍ عن النقاوة والشفافيّة لا يحيد.
وبعد هذه الجولة بين عالم (الممثلات) وعالم (الغريبات)، أقول واثقة: إذا كان مدح رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو الجزاء فإن لي نفساً توّاقة لتتذوقَ حلاوة «طوبى للغرباء»!
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة