هُويّتنا...في عالمٍ متغيّر
قامت معركة عنيفة بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية حول أمور تتعلق بالمجال السمعي - البصري؛ ففرنسا ظلت مترددة في فتح مجالها الإعلامي أمام الاكتساح السمعي البصري الأمريكي، إذ لم تتوفر لها الضمانات الكافية لتحصين ذاتها ضد الاكتساح الثقافي للآخر رغم إمكاناتها الهائلة في المجال الإعلامي... (الإعلام والتربية بين الحفاظ على الهوية والانفتاح على النماذج الإنسانية – محمد فاضل رضوان)..
لعل الموقف الفرنسي يشير إلى معانٍ عميقة لم يفطن لها دهاقنة الإعلام في عالمنا العربي.. أو لعلهم فطنوا ولكنهم قدموا الكثير من أولويات السياسة والاقتصاد على أولوية الحفاظ على هُوية الأمة في عصر أصبح فيه التدفق المعرفي واقعاً يتطلب التعامل معه الكثير من الحكمة والحذر.
وهنا تبدو المفارقة بين موقف فرنسا في حرصها على خصوصياتها الثقافية والمجتمعية رغم ما بينها وبين أميركا من مشتركات.. واضعة الشروط والضمانات لكي تفتح فضاءها لـ «الاكتساح الثقافي».. وبين الواقع العربي الهزيل الذي يتآمر على الهوية الإسلامية ويعمل على تفريغها من مضمونها خدمة للحاكم وجَوْقته، أو تمريراً للسياسات الخارجية، أو تحقيقاً للربح الخيالي على حساب احترام عقل المتلقي، لتصبح الشعوب استهلاكية بلا مضمون.
فما هي الضمانات التي تحتاجها أمتنا لكي تحافظ على هويتها بكل ما تختزنه من خصوصيات عقائدية وثقافية وحضارية تختلف جملة وتفصيلاً عما تفرضه عليها سياسة الأمر الواقع؟
لم يعد بمقدور أية مؤسسة تربوية أو ثقافية أو إعلامية إغلاق المنافذ في وجه التدفق الهائل للمعلومات عبر وسائل الاتصال المختلفة بهدف حماية العقول من الأفكار والثقافات الوافدة.. وإنما عليها أن تضع
الإستراتيجيات التي تضمن التعامل مع هذا الواقع بما يحصِّن هوية الأمة ويحفظ الموروث الثقافي والحضاري للأجيال، ويتيح لهم في الوقت نفسه تفاعلاً إيجابياً مع إمبراطورية الإعلام العالمية وما ينتج عنها..
• تربوياً:
1. تغيير الأنماط والأساليب المعتمدة في مؤسساتنا التربوية بدءاً من البيت ثم المدرسة ثم المجتمع بمختلف محاضنه ومؤسساته؛ لتواكب سرعة التحولات العالمية وما لها من انعكاسات على مجتمعاتنا، ولتوازن بين حتمية الانفتاح على الآخر والحفاظ على ذاتيتها الحضارية، ولتتناسب مع تطلعات هذا الجيل.. حتى لا يكون التربويون في واد والأجيال في وادٍ مختلف..
2. إعادة النظر في الخطاب التربوي والدعوي والإعلامي الرسالي.. بحيث يتخطى أساليب التلقين والتوجيه والوعظ المباشر والأوامر والنواهي... ليفتح لهذا الجيل مجالات التلقي بذهنية الناقد المحلل الذي يمحِّص المعلومة قبل استقبالها وإضافتها إلى منظومته القيمية والثقافية.. عندها فقط ستمثل له المعارف الوافدة إضافة جديدة تزيد من ثقافته ولا تُنقص من قيمه.
3. إيجاد قاسم مشترك متناغم متوازن بين الأبعاد المادية والروحية والفكرية للإنسان.. وعندما يأخذ هذا الإنسان كفايته من هذه الأبعاد فلن يكون للثقافات الوافدة من المجتمعات المادية أي أثر سلبي على شخصيته.
• ثقافياً:
1. وضع آليات للاستفادة من الثقافة الوافدة بما لا ينعكس سلباً على الهوية من خلال الغربلة والتدقيق، والانطلاق من رؤى تحليلية نقدية موضوعية تأخذ ما يتناسب مع عقيدتنا وقيمنا وثقافتنا.. وهذه تحتاج إلى مراكز دراسات وأبحاث تؤسس لهذه العملية وترفد بنتائجها سائر مؤسسات المجتمع.
2. عدم الاكتفاء بالتلقي وترجمة المعارف فقط.. فعلى مؤسساتنا بمختلف اختصاصاتها واجب الإنتاج المعرفي وتصديره مع ما فيه من قابلية للانتشار والتوسع عالمياً، وإصلاح وترشيد الوافد والإفادة منه.
3. إيجاد آليات عملية تعيد ثقة هذا الجيل بثقافته الأصيلة.
• إعلامياً:
1. الاستفادة من وسائل الاتصال بكل ما تقدمه من خدمات وترشيد استخدامها بدل حظرها، وتوظيف ذلك بما يخدم مجتمعاتنا ويحفظ للجيل قيمه وللأمة هويتها.
2. الوعي لدور الإعلام في التنمية الثقافية والاجتماعية، وفي صياغة الشخصية الإنسانية سلباً أو إيجاباً، وفي تشكيل القناعات، وفي الحفاظ على هوية الأمة، وفي تقديم الرؤى التحليلية المختلفة حول ما يجري من أحداث محلية وإقليمية وعالمية.. وبالتالي منافسة مؤسسات الإعلام في دورها هذا، والحلول محلها في أداء تلك المهمات بطرق انسيابية تستطيع إقناع المتلقي من خلال ما تملكه من مضمون إعلامي عملي جذاب يجمع بين الأصالة والحداثة.
3. بلورة ميثاق إعلامي خاص بوسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها الأكثر استخداماً وانتشاراً بين الشباب؛ ليكون ضابطاً لعملية التواصل، مقللاً من سلبياتها معززاً إيجابياتها على الفرد والمجتمع.
4. التنبه للرسائل الإعلامية المباشرة وغير المباشرة وتحليل مضامينها وتنقيتها والاستفادة من النافع منها.
5. إنتاج آليات خطاب إعلامية تُسهم في الحفاظ على الهوية وفي تعزيز القيم وتثبيت ما صلح من عادات وتقاليد المجتمع واستبعاد ما فسد منها على ضوء الأنماط الاجتماعية الجديدة التي لا تتعارض مع الدين.
6. إنتاج مضمون إعلامي يركز على مصلحة الإنسان باعتباره المتلقي لهذا المضمون؛ فمن دون إنسان واعٍ لذاته ولدوره، إنسان يحترم عقله وهو يتلقى الرسائل الإعلامية.. تفقد مؤسسات الإعلام سبب وجودها.
* * *
وعليه، فإن مهمة المحافظة على الهوية في عصر التحولات المجتمعية والمجالات المفتوحة تتطلب تضافر جهود جميع المؤسسات لتكون أكثر وعياً بمتطلبات المرحلة، ولتؤسس لعملية تربوية ثقافية إعلامية مواكِبة متوازنة تحفظ للأمة هويتها وتقدم الحلول للكثير من المشكلات التي يعاني منها أبناء هذا الجيل، على رأسها الفصام بين تطلعاته وبين ما تقدمه له مؤسساته
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة