الإسراف في يوم العرس
كثيرًا ما يتكلف الأهل على بناتهم يوم عرسهن:
فيأتون لَهُنَّ بأثْمَن الأقمشة، ويخيطونها عند أشهر المشاغل، ويُلْبِسُونهن أفخر الحلي، ويذهبون بهن إلى الصالونات الغالية ليدفعوا مقابل تصفيف الشعر وتزيين الوجه (ليوم واحد) مبلغًا يكفي لإطعام ستين مسكينًا أسبوعًا كاملاً! وأعجب منه أن العروس ابنتهم لا تأتي الصالة يوم حفلها إلا قبل انصراف المدعوات بساعة أو أقل، فلا يرى أحدٌ ثوبها هذا وزينتها إلا قليلاً، ولا تستمتع النساء كما ينبغي بجمال زيها وروعته، ولا ببهائها وتألقها، وكذلك العروس الرجل لا يكاد يرى أو يدرك شيئًا من هذا؛ لأن يوم العرس يوم له ظروفه الخاصة، ويصاحبه - على الأغلب - الارتباك والفوضى، وكثرة الواجبات وضيق الأوقات، وأحيانًا يغادر الزوجان (فورًا، وبعد انتهاء الحفل) إلى بلد أجنبي لقضاء شهر العسل، فلماذا يتكلف إذًا أصحاب العرس كل هذه المصاريف الزائلة؟!
حتى إذا انتهت مراسيم الزفاف، ومر الشهر الأول، وعاد الزوجان من سفرهما واستقرا في بيتهما، وأحب الزوج أن يرى امرأته متجملة متزينة، أهملت هندامها وتبذَّلت، وانشغلت عن التأنق بالمسؤوليات الجديدة الجسيمة، فلا تكاد الزوجة - بعد يوم الزفاف - ترتدي ثوب العرس هذا حتى لزوجها مرة واحدة، فهل يليق إذًا أن يتكلف الوالدان من أجل ثوب واحد، ليوم واحد، بل لساعات معدودة، مبالغ غير معقولة؟
أوليس المسلمون اليوم يميلون إلى التقليد في كل أمر عصري، فاستقدموا هيئة ولون لباس العرس؟ فلماذا أخذوه إذًا مقطوعًا عما قبله وما بعده ما داموا قد استوردوه؟ ما ضرَّهُم لو قلدوا الأجانب وحَذَوْا حذوهم في أمرهم، فجعلوا ثوب العرس أنيقًا جميلاً متألِّقًا، وبسيطًا رخيصًا؟ وبذلك نحافظ نحن - المسلمين - على مظاهر الفرحة، وعلى التقاليد التي صارت عالمية معروفة، من دون أن نهدر جزءًا كبيرًا من أموالنا في ساعات معدودة.
أو لماذا لا نأخذ بسُنَّتِهم الأخرى، فنستأجر ثوب العرس وما يتبعه استئجارًا ليوم واحد فقط، لنوفر أكثر!؟ وبدل أن نحتفظ بالثوب الأبيض عينه نكتفي بالاحتفاظ بصورة له، وحفظ الصورة أرخص بكثير، وهي لا تحتاج حيِّزًا يُذْكَر، وهي تبقى كما هي أبد الدهر ذكرى لتلك الليلة، وهي أصدق في التعبير عن هيئة العروس في ذلك اليوم، أما الثوب فإنه يتغير ويبلى، وهو يحتاج حيِّزًا كبيرًا لتخزينه، بلا فائدة تُرْجَى من الاحتفاظ به؛ لأن المرأة وبشكل طبيعي يزداد وزنها مع مرور الأيام، وغالب الزوجات يتضخمن بعد الحمل والولادة، فلا يصلح ثوب عرسهن مِنْ بعدُ لارتدائه أبدًا.
وأهمه أن السعادة الزوجية لا تكون بتلك الطقوس، ومن المفارقات العجيبة أنِّي دُعِيتُ مرة إلى عرس في أفخر الصالات، وقد تكلَّفَ أهله ثمانية وأربعين ألف ريال فقط مقابل تزيين ثوب العروس بالخز والحرير (أي سوى التكاليف الأخرى كثمن القماش وأجرة الخياطة وأجرة الصالة وغيره)، فلم تلبث العروس أن طُلِّقت بعد سنة من الزواج! ودُعِيتُ تارة أخرى إلى عرس بسيط أقاموه في البيت، وأصَرَّت العروس فيه أن تلبس ثوبًا معقول الثمن، أنيق المظهر، ولونه غير الأبيض، فصَادَفَ أن سَعِدَتْ أشدَّ السعادة في زواجها، واستفادت من ثوبها كلَّ الاستفادة؛ فلبسَتْه في المناسبات التالية التي دعِيَت إليها؛ لأنه مُلَوَّن، أما الثوب الأبيض فلا يصلح إلا ليوم العرس، ثم تستهجن النساء أن يُلْبَس مرة أخرى إلا في حالات نادرة.
ومن العادات أن الزوج والأهل يُقَدِّمون الحُلِيَّ للزوجة عند الخطبة، ويوم العرس على مرأى من المدعوين، وكثيرًا ما يتفاخرون بهذه التلبيسة، وهي أول ما يَسأل عنه الناس ويهتمون به بعد الخِطبة عندنا في دمشق! شهدت ذلك بنفسي، فبعد أن تم عقد قراني (قبل ثلاثة وعشرين عامًا) وذهبت في اليوم التالي إلى المدرسة، تجمَّعَت حولي بنات صَفِّي (وكنا صغارًا في المرحلة الثانوية)، ليسألْنَنِي: "ماذا لبَّسك خطيبك؟" فلمَّا قلت لهن: "لا شيء، غير خاتم من الذهب"، (رأينه يلمع في يدي!) لَوَيْنَ رؤوسهن، وفغرن أفواههُن دهشةً، ثم ظنَنَّ أني مسكينة، قد تزوجت من هو دوني في المستوى الاجتماعي! فأشفقْنَ عليَّ، ولم يكن من الممكن أن أشرح لهن - وهن غير ملتزمات - أن أمي طلبت هذا، وأنا وافقْتُها عليه.
فَمَنْ علَّمَهُنَّ السؤال والاهتمام؟! إنها طبيعة المجتمع الذي يُوَرِّث الصِّغَارَ عاداتِهِ واهتماماته، والتلبيسة بهذا المنطق أصبحت نوعًا من السَّرَف، فهي لم تعُدْ هدية للتقرب والتحبُّب بين العروسين، وإنما أضحت وسيلةً للتنافس والتسابق بين العائلات.
ولا أدع هذه النقطة قبل أن أستطرد قليلاً في الشرح والتفصيل:
فقد كنت أقرأ الآيات القرآنية التي تؤكد أن متاع الدنيا زائل (من قبل أن أَمُرَّ بتجربة)، فلا أتفهمها حق الفهم، فلما دخل لصٌّ إلى بيتي قبل سنوات قليلة، وسرق بعض حُلِيِّي المتواضعة التي جاءتني هدية وقت زواجي، أدركْتُ ساعتها بعمقٍ أن متاع الحياة قد يزول فجأة، فلا يتمتع الإنسان به حتى في الدنيا فضلاً عن الآخرة.
وفعلاً أصبحَتْ - بعدها - حُلِيُّ الزواج الثمينة عبئًا ثقيلاً على معارفي وقريباتي، حتى سارعت غالبِيَّتهن إلى حفظها في صناديق البنوك، ولقد اقترحن عليَّ أن أفعل مثلهن بِحُلِيِّي التي نَجَتْ (تَخَوُّفًا من سرقة أخرى)، ففعلْتُ، ثم وجدت الأمر مضحكًا؛ فلِمَ أقتني هذه الحُلِيَّ إن كنت سأحفظها في البنك، فلا أجدها في الوقت الذي أحتاجها فيه؟ وأي سعادة سأجنيها إن أَبْقَيْتُ الحليَّ في المنزل، وبَقِيتُ قلِقَةً أترقب أن يدخل لصٌّ آخر ويحمل ما بقي منها؟ إن الحياة من دون هذا العناء أرحم! فلا أُسْرِفُ - من الأصل - في اقتناء حُلِيٍّ مرتفعةِ الثمن، ولا أقلق بعدها عليها خوفًا من اللصوص! ولكنها فلسفة اتفقْتُ عليها ومجموعة من صديقاتي وقريباتي اللاتي تمت سرقةُ حُلِيِّهِنَّ (وهن كثيرات!)، ولا أظن أن إقناع الناس بها أمر يسير.
والسرف يكون أيضًا في بطاقات الدعوة التي يتفننون فيها، فهي من الورق الصقيل الملون، أو الحرير أو غير ذلك، مما يكلف مالاً لصنعها، وآخر لطبعها، وثالثًا لتوزيعها على المدعُوِّين.
ويكون السرف باختيار مكان الحفل، وغالب الناس صاروا يختارون أفخر الصالات ليتباهوا بها أمام معارفهم، فطمع أصحابها، وصارت أسعارها خيالية، ولو أن الأغنياء أعرضوا عنها لأرخصوها بالترك، ولصارت أسعارها معقولة.
وهم يُسْرِفون بطعام الوليمة، فيتكلفون الأموال ويستكثرون الأصناف والكميات، فيتحملون إثمَ السَّرف، ثم إثْمَ ما يُرمى من بقايا الطعام.
والسرف يكون في بطاقات الزهر، وقد يبلغ عددها العشرات، وثمنها المئات، لتُجْعَل حول العروسين، فيكون لها منظر رائع خلاب، ورائحة فواحة زكية، يومًا واحدًا، بل ساعات، ثم تفسد، وتجف وتلقى في إحدى المزابل، لينتهي بها المطاف إلى المحرقة، فتحترق مئات من الريالات، وكان يمكن أن يُكْتَفَى بباقتين أو ثلاث، ويُشْتَرَى ببقية الريالات شيءٌ مفيد للعروسين.
وقد جرت العادة عندنا في دمشق أن يُوَزِّع أصحاب العرس السُّكَّر على المدعوين في علب فاخرة من الفضة أو الصيني، وقد سَنَّتْ بعض العائلات سُنَّةً حسنة، فاستبدلت بهذا السرف توزيع الكتيبات المفيدة، وكانت لهذه السنة آثار طيبة، فطوبى لمن يستمر في إحيائها.
هذه هي مظاهر الإسراف في الأعراس، على أن المظاهر السابقة كلها قد لا تكون سرفًا - بل بعضها سُنَّة - لو وقفَتْ عند حد معقولٍ، ولكن المبالغات تلك هي القضية، وعمل هؤلاء هو علة ما نشكو منه من انصراف الشباب عن الزواج! فمَنْ لكل شاب مسلم لِيُؤَمِّنَ له كل هذه النفقات (للعرس وحده) وهو عاجز عن تأمين مهر فضلاً عن بيت للزوجية؟!
إن الموضوع فيما أرى يستحق التأمل والتفكير، تمهيدًا للتغيير والتعديل.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن