كرسيَّ المريح
منذ بدأتُ أميز، منذ بدأت أقارنُ، منذ بدأت أتمنَّى خدمةَ نفسي بنفسي، منذ بدأت أراهم في مثلِ عمري، وأصغر مني يقفون ويمشون، منذ بدأت أفهم أنني لا أستطيعُ مثل الأخريات والآخرين، منذ اكتشفت أنني مقعدة! مشلولة! معاقة! وكلها مترادفات ليس بينها أحلاها ولا أهونها، كلها مرة أو أشد مرارة! منذ الطفولةِ البعيدة جدًّا بمقياسِ مأساتي وأنا أجلسُ على كرسيٍّ يحرِّكني.
أذهبُ إلى الحديقةِ أو السوق، أو لزيارةِ أحدهم، أو إلى مدرستي، وأمي تدفعني، ودائمًا إلى الأمام، حتى إن أرادت تغييرَ اتجاه الكرسي القبيح، فإنها تفعلُ ذلك بدفعِه إلى الأمام أيضًا، وتظلُّ تحدثني عن الأشياءِ الجميلة: الأمل، والنجاح، والتفاؤل، والقوة، والعزم، والربيع، والنسمات، والأزهار، والرِّقة، والابتسامة، والرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - والصبر والصابرين، والجنَّة ونعيمها؛ فأشتد شوقًا إليها كشوقي إلى المشي، فأسأل أمي: هل سأشفى يا أمي وأقوم وأمشي؟
فتقولُ بابتسامة حلوة (جميلة): الله قادرٌ على كلِّ شيء حبيبتي، لا تَيْئَسي، وستمشين.
فأعودُ للسؤال: وإذا لم أمشِ في الدنيا، فهل سأمشي في الجنة؟
فتقول بابتسامةٍ أحلى من السَّابقة: طبعًا حبيبتي، ستمشين، وتجرين، وتقفزين، وتلعبين، وتتسابقين، وتتسلقين الأشجار والجبال.
فأتخيلني كذلك، فأتمنى أن أموتَ كي أدخل الجنَّةَ لأفعل ما تقولُه أمي.
وكل يوم تُهندسُ في قلبي أبنيةً من الجمالِ والآمال، وكل يوم يأتي من يخربُ أو يهدم ما تفعلُه أمي، كل يوم يستفسرُ أحدٌ عن سبب جلوسي على الكرسي! كل يوم تنظرُ إليَّ العيون متسائلة أو مشفقة أو ساخرة أو مشمئزة! وكلها نظراتٌ أستطيعُ التمييز بينها، بالرَّغم من صغرِ سني الذي لم يزد وقتها على السَّابعة، وقد لا ينظر إليَّ أحدُهم أو إحداهنَّ ظنًّا منهم أنه لا ينبغي أن يُنظرَ إليَّ؛ لأنني مسكينة وعليهم أن يلتفتوا عني حتى لا أحزن، فيصيبني من الحزنِ ما لا يعلمه إلا الله.
وفي مراهقتي قصص محزنة من نوعٍ آخر، نوع يليقُ بالمراهقة والشَّباب، ما أجمل هؤلاء البنات الواقفات! ما أجمل قاماتهنَّ مهما كان طولها أو عرضها، يكفي أنها قاماتٌ واقفة على رِجلين! ما أحلى الثياب عليهنَّ! فاتنات هنَّ بالثوبِ والحذاء والحقيبة والحلِيِّ والزينة! تشعرُ بي أمي، وتحاول معي أن أزينَ وجهي وألوِّنَه بما يليقُ بفتاةٍ في مثل عمري، فأرفضُ وبشدة؛ لأنني أعتقدُ أنني سأبدو مثل المهرجِ، وأتخيل أن من يراني سيضحكُ قائلاً: من أجل ماذا تتزين؟ من سيهتمُّ بها؟ من سيلتفت إليها هذه المعاقة؟
عشت طفولتي بلا طفولة، ومضت سنوات مراهقتي بلا أحلام ولا أماني المراهقات، وكان لي حلمٌ وحيد: أن أمشي، لكنه لم يتحقق.
وبدأتْ مرحلةٌ من شبابي بلا طموحٍ ولا عنفوان، وأشد ما كان يذبحني إحساسُ أمي بأنَّ جهودَها معي ضاعتْ هباءً، وهي التي لم توكل أمر خدمتي يومًا إلى خادمةٍ أو ممرضة، بل كانت تخدمُني هي، ولم تنهزمْ يومًا، ولم تكفّ عن دفعي إلى الأمام، مهما كانت ردودُ أفعالي محبطة.
في ذلك اليوم رأيتُ ما يصعب رؤيته، لكنني أجبرتُ نفسي على المشاهدة والتأمُّل؛ لأنَّ أمي علمتني أن من لم يهتم بأمرِ المسلمين فليس منهم، فشاهدتُ المقاطعَ مرة، ومرة، ومرة، شاهدت حمزةَ وقد عُذِّب جسدُه الغضُّ الطري، وقُطِعتْ بعضُ أعضائه! وشاهدت زينب؛ عضوًا عضوًا، وقطعةً قطعة! وشاهدت من يُجبرون على عبادةِ عبدٍ، ويعذَّبون من أجل ذلك!
ورغم ذلك فإنَّ النَّاسَ غير خائفين، غير مبالين، بل يزدادون إصرارًا، وجرأة، وشجاعة، وثورة! شاهدتهم في سوريا وليبيا واليمن ومصر وفي تونس!
بكيتُ بكلِّ أنواع البكاءِ، بكيت قهرًا، وبكيت ألمًا، وبكيت فرحًا، وبكيت غيظًا.
وبكيتُ عجزي وعدم قدرتي على فعلِ شيء، سوى ملازمة هذا الكرسي القبيحِ الكريه، يجب أن أفعلَ شيئًا من أجلِ الحرية والكرامة، غير المشاهدةِ والبكاء، يجب.
دخلتُ على أمي حجرتَها؛ وقد كانت في خلوةٍ مع الله ترفعُ يديها وتدعو، قلت لها:
• سأتصالَحُ مع الكرسي يا أمي، أليس هو الذي يحملني وينقلني من مكانٍ إلى مكان؟ أليس هو رجلاي؟ وسأتصالح مع نفسي يا أمي، سأحبُّها كما هي، بل قد أفعلُ ما لا يستطيعُ العدَّاؤون فعله.
نظرتْ غير مصدقة!
فقلتُ:
• صدقيني أمي ثُرت أنا على نفسي، سأذهبُ إلى الجامعة، وسأدفع كرسيَّ القبيـ! أقصد المريح هذا بيديَّ، وسأتم تعليمي، لأكونَ معلمةً أعلِّم الأجيال: الحرية، والعزة، والكرامة، أعلِّمُهم أنَّنا عبيدٌ لله فقط، وليس لأحدٍ غيره، هكذا خلقنا وليس لأحدٍ أن يستعبدَنا، ولا يجوزُ أن نكون عبيدًا لأحدٍ، أو لشيء، أو لكرسيٍّ.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن