والإسراف في شراء لعب الأطفال
من له أولاد يبتلي منهم ببلية، هي أنه كلما جاء العيد، أو حدثت مناسبة، أو مروا من أمام دكان الألعاب… تعلقوا به طالبين منه شراء لعبة جديدة. وفي اصطحاب الأطفال إلى مخزن الألعاب مشكلة كبيرة؛ لأنهم يتهافتون على محتوياته كما تتهافت الفراشات إلى الضوء، فيتوقون إلى شراء كل لعبة، ويتشوقون إلى امتلاكها، ويتحرقون إلى اقتنائها. وكيف لا يفعلون وصناعة اللعب صارت اليوم فناً يجذب الصغار وأحياناً الكبار؟ فهي بأشكال وألوان، منها ما هو على مثال مزرعة حقيقية بحيواناتها وشجراتها واصطبلاتها وأدوات الحراثة فيها، ومنها ما هو على هيئة السلاح الأصلي بشكله ولونه وزناده وصوته، ومنها ما هو على صورة فتاة بأطرافها وحركاتها وملابسها وحوائجها… كل ذلك مصور مشكل دقيق الصنعة، نشتريها ويقبل عليها أولادنا فتكون لهم كمن يشرب ماء البحر فينكب عليه ولا يرتوي منه.. وهذا هو عين “الإسراف”: التهافت على شراء اللعب من دون حساب، ومن دون تفكير أو تقنين.
فليست المشكلة -إذن- فيمن يمتلك حداً معقولاً من اللعب، فاقتناء اللعب حق لكل طفل، وليست فيمن يشتري اللعب بتبصر واعتدال، إنما المشكلة فيمن يكثر من شراء الألعاب، ويبالغ في كميتها، ويكدسها أمام ناظري أبنائه وفي متناول أيديهم، فهذا يربي أولاده على البطر، ويحثهم على الشره، ويدفعهم إلى طلب المزيد والمزيد من الألعاب.
* * *
ويذهب بعض الأولاد ليلعبوا بتلك الألعاب (التي تكلف أهليهم مالاً غير قليل في شرائها لكثرتها)، فتتحطم وتتمزق بعض أجزائها، ولا تكون إلا أيام حتى تتكسر في أيديهم، وكيف لا تتكسر بعض أنواعها بيسر وسهولة وهي مصنوعة من أردأ المواد، لا تحتمل صدمة ولا نقرة، وتعود حطاماً ينتهي بها إلى صندوق القمامة.
فإن كانت اللعب متينة جيدة الصنع غالية الثمن تعاون عليها أولاد البيت مع أبناء الضيوف، حتى إذا حطموا أطرافها وأضاعوا أجزاءها طالبوا بلعبة أخرى جديدة بكل وقاحة، غير مبالين ولا آسفين على تعمدهم إفساد اللعب واستعمالها في غير ما وضعت له:
- فهم يرمونها لأنهم يتخيلونها قنبلة أو كرة.
- ويدوسون فوقها إن اختصموا غير مبالين، فيتلف قسم منها تحت ثقل أجسامهم.
- وقد يحاولون تشريحها لمعرفة طريقة صنعها، بفك لحام قطعها، فتفسد وتتعذر إعادتها إلى ما كانت عليه…
وهذا فيه إضاعة للمال مع سبق العمد والإصرار، فالولد يكسر اللعب لأنه لم يقدرها حق قدرها، بسبب أن والديه يسرفان في شراء اللعب. ويكسرها لأنهما لم يعلماه طريقة التعامل مع الألعاب، ولم يحذراه من عواقب الاستهتار بهذه النعمة.
* * *
فما هو العمل؟ هل نحرم الولد من زيارة دكان الألعاب والاستمتاع بالانتقاء والشراء واللعب ضرورة وأسلوب تعلم؟
لا، أبداً. وليس ما كتبته إلا تنبيهاً ودعوة إلى ضرورة الاعتدال في الشراء، فلا نستجيب لكل رجاء طفل ونشتري له كل ما يطلبه ويتمناه. وهذا الأمر يتم ببساطة ومن دون أن يشعر الطفل بالحرمان أو الخسارة، وذلك باتباع بعض التدابير من مثل:
1- التقليل من زيارة دكان الألعاب، وحصر تقديم الألعاب (هدايا) على المناسبات الهامة التي تستحق الشكر والتقدير، فيشعر الطفل بقيمة اللعبة التي جاءته، ويعلم يقيناً أنها شيء ثمين لا يأتيه مثله كل يوم، فيقدرها.
2- تلقين الطفل أن الألعاب -وإن كانت جماداً- فإنها نعمة من نعم الله فينبغي شكرها، وشكرها يكون بالمحافظة عليها، واللعب بها كما قرر صانعوها، وليس بطريقة همجية مؤذية، فيحفزه هذا على المحافظة على ألعابه.
3- اختيار الألعاب ذات القطع الكثيرة القابلة للفك والتركيب، والتي يمكن تشكيلها بصور شتى، وتوجيه انتباه الأولاد إلى الابتكار والاختراع فيها، ومثل هذه الألعاب فيها مجال عظيم للتسلية والمرح، ويتربع على قمة هذه الألعاب “الليغو” فهو ألعاب في لعبة واحدة! وقد استطاع أطفالي الصغار وحدهم (ومن دون مساعدة) ابتكار عشرات الأشياء منه، وتفننوا فيها حتى أنهم أثاروا إعجاب كل من اطلع على إنجازاتهم.
4- السماح للأطفال باستعمال بعض أغراض المنزل كألعاب على سبيل التجديد والتغيير (شرط أن تكون مناسبة للعب، وأن يُلعب بها بحذر فلا تفسد من سوء الاستخدام)، وقد كان جدي -علي الطنطاوي، يرحمه الله- هو من علمنا أن نبني خيمة أو بيتاً بالأغطية والمراتب، وكنا نسعد أشد السعادة بهذا، كما كان يسمح لنا أن نستعمل الأواني البلاستيكية والطعام الخفيف في لعبنا فنتخيل أننا في مطعم، أو في نزهة…
5- ولعل في شغل الأولاد بالهوايات الأخرى كالقص واللصق، والرسم والقراءة، وتعلم الإلقاء، فرصة ليعلموا أن اللهو أنواع وأشكال، فلا يظنوا أن الألعاب الجاهزة وحدها هي التي تدخل البهجة عليهم وتفرح قلوبهم.
ومنه تشجيع الأولاد على الاستفادة من المواد البسيطة الأولية المتوفرة في البيت، كالأسلاك والمسامير والخشب الرخيص، لصنع أشياء مفيدة، وقد كان من أقربائنا من صنع لنفسه رفوفاً لكتبه وعلاقة لملابسه. وكان منهم من استفاد من الورق المقوى في ابتكار لعب مسلية جداً وهادفة.
6- لقد عُرفَ اللعب بأنه: “كل حركة أو سلسلة من الحركات يقصد بها التسلية”. فالأطفال سيلعبون وسيجدون ما يمتعهم سواء علينا أشترينا لهم لعباً أم لم نفعل. فلنساهم بتقوية هذا المنحى الطبيعي بإرشادهم إلى كل الألعاب المناسبة الهادفة، فنحثهم على الألعاب الخلوية البسيطة التي تعرفها كل الشعوب وتعلمها صغارها، والتي لا تحتاج الأدوات والأشياء، كل ما تحتاجه هو إتقان فن الاختفاء والمناورة. ومن الخير تعليمهم المسابقة والجري كما أمر النبي ص. وكذلك تدريبهم على فنون القتال البسيطة. فهذه الألعاب تنشط الجسم وتحرك العضلات. وتنمي عندهم التنافس الشريف، وفن الدفاع عن النفس.
7- وقد يكون في إخفاء بعض الألعاب -إلى حين- حيلة جيدة واستراتيجية ناجحة؛ فالأطفال يملون من ألعابهم إن لعبوا بها كل يوم، فإن أخفينا قسماً بعيداً عن متناول أيديهم وعن مجال رؤيتهم، مدة طويلة، ثم أبرزناها لهم فرحوا بها كأنها لعب جديدة وأكبوا عليها سعداء مسرورين.
* * *
وبهذه الطريقة نكون قد ساهمنا بترفيه وتسلية الصغار من دون إسراف وإضاعة مال، بل نكون قد جعلنا الطفولة أكثر امتلاء وغنى، وأكثر تنوعاً ونشاطاً وحيوية وبتكلفة أقل، لأن الألعاب الجاهزة -مهما تفننوا فيها- لا تكفي وحدها لإغناء حاجات الطفل كلها، ولا تتيح له المجال ليتعرف على العالم الكبير، ولا توفر له الخبرات المتنوعة.
ونكون بهذا السلوك -أيضاً- قد عودنا الأطفال على الاعتدال والبعد عن الإسراف، ونكون قد غرسنا في نفوسهم قيمة عظيمة هي القناعة والرضا، ومحاولة الابتكار والإبداع بالموجود، وهذا المبدأ يعين الإنسان في حياته المستقبلية كلها، ويساعده على احتمال قلة ذات اليد، وعلى حسن استثمار الموارد القليلة؛ فيدرك كل طفل من صغره، أنه لا يمكنه أن يشتري كل ما يشتهي، بل عليه أن ينتقي ثم يقنع ويكتفي.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن