أم الصغار (1)
وكأنها بالأمس القريب.. حينما كانت الريح تعصف والغيوم تذرف، والأشجار تكاد تُقتَلَع من أرضها التي تعرف.
وفي تلك الليلة الحالكة كان لزاماً على "إيمان" أن تذهب لبيت أختها من أجل الاطمئنان على الصغار هناك.
في لحظة ظهور حافة العمارة التي تقصد، حدقت النظر نحوها، ففزعت حين رأت شباك الطابق العلوي مفتوحًا وستائره تتأرجح يَمنة ويَسرة.
لم تدرِ إيمان كيف أوقفت سيارتها، بل كيف استولت على مكان اصطفافها. خرجت من سيارتها بسرعة الملهوف ورفعت رأسها صوب النافذة فأيقنت أن ذاك الشيش العالي قد أُزيل من موقعه تمامًا، ولربما سمعت همهمات بعيدة... لم تقف طويلاً، إنما أطلقت قدميها للريح بعدما دوّت صفارات الإنذار في قلبها المكلوم، وأخذت تصعد السلم بسرعة قياسية - غير مسبوقة من قِبَلها على الأقل - متجاهلة صوت صفير أنفاسها المتتابعة مع احتجاجات ساكن أحشائها الذي لم ير بعد فرحاً ولا ترحاً... رغم كل ذلك... ورغم إدراكها لخطورة ذاك الإعياء على جنينها الذي تنتظره بفارغ الصبر، إلا أنها لم تسمح لنفسها أن تقف هنيهة لالتقاط نفَس عميق واحد، وقد تقافزت أمام ناظريها صور مخيفة شتى لعل منها بعض صور حالات «انتحار» ساخنة وحديثة. لكن لا... إنهم صغار الأحجام وكبار الأحلام... ما بال هواجسها تسارع خَطْوها؟ إنها تكاد تقع على الأرض من شدّة الإرهاق الجسمي والنفسي أيضاً؛ فإرهاقها الجسديّ لم يحجز إرهاقها النفسي، بل لعل أحدهما صعّد الآخر، إذ إن مطارق ذكرياتها تؤجج أحزانها... وكيف تنسى أُمَّ الصغار هؤلاء وقد كانت مِلء السمع والبصر؟ كان شريط ذكرياتها يمر أسرع من أنفاسها..
لم يهدأ لها بال إلا بعد احتضانها للأطفال، وأخذت دموعها تتدحرج من مآقيها وهي تحدث نفسها قائلة: بالأمس القريب كان هؤلاء الصبية ينامون نومة الملوك وهم يستمعون ويستمتعون بما كانت تسكب ست الحبايب من قصص وأذكار وآيات يتذاكرونها قبل نومهم، ثم تساءلت: ترى كيف قضى هؤلاء الأطفال يومهم وأياديهم المثلجة وثيابهم المبللة تشهد على إهمالهم؟ والَهْف نفسي عليهم... ومن فورها قامت بإغلاق النافذة وتبديل ملابسهم وتدفئتهم, ثم سألتهم ما إذا تناولوا العشاء على موعده فأجابوا بالنفي، فهم لا يشعرون بالجوع! ثم سألتهم عن واجباتهم المدرسية وأحوالهم الدراسية فطمأنوها، فأمهم كانت تغرس فيهم حب القراءة منذ نعومة أظفارهم لأنها كانت تعتقد أن القارئ منذ الصغر هو المتفوق مدى الحياة!
حاولت إيمان أن تروي لهم القصص، وقدّمت لهم كتباً جديدة علّها تستطيع تخفيف أحزانهم... لكن عبثاً حاولت؛ إذ لم تعد القصص المصورة تُفرحهم، ولم يعُد شيء يمكنه أن يُدخل البهجة على قلوبهم... يبدو أنهم لا يدركون ما هو المستحيل، لذا تراهم يُصرّون على طلبه.. فقد دُفنت أمهم منذ يومين ولم يفهموا بعد معنى الموت، وعلّلت ذلك بأنهم ما زالوا صغاراً... لكن في الحقيقة، لا هي ولا كل الذين تراهم قد صدّقوا أن أمهم تحت التراب... فوالهف أنفسنا ويا حسرتنا على ضعف اليقين لدينا!!
أرادت إيمان أن تبذل قصارى جهدها علّها تستطيع مسح شيء من نظراتهم الموغلة في الحزن... لكنها لم تجد لذلك سبيلاً. لملمت بقايا ذرات شجاعتها الهاربة فخنقت دموعها ورسمت شبه ابتسامة على وجهها وسألتهم بصوتٍ ناعم مفتعَل - طبعاً- لماذا تريدون فتح النافذة؟ وهي تكاد تجزم أنهم يعيشون خيالات طفولية، فلربما تأتي إليهم أمهم من المساء كما في قصص الأطفال... وقبل أن تسترسل في خيالاتها الطفولية شدّتها ابنة الأعوام الخمسة حيث الواقع فقالت: نحن نريد أن نرى ماما في الجنة، اتركونا ندعو لها... فأكملت ابنة الأعوام السبعة: لقد علّمتنا ماما أن الدعاء حين نزول المطر مستجاب... بينما توجه ابن الأعوام الثمانية نحو النافذة ففتحها فطارت كل الأوراق والشعور في شتى الاتجاهات... وسارت قشعريرة في أوصال إيمان... ثم امتدت ثماني أيادٍ متضرعة خاشعة... ونظرت إيمان عبر النافذة، ولكأنها تستقطب موجات لقائها الأول مع أُم الصغار، وتكاد تصيخ السمع لسؤال الفقيدة الغالية: كيف تغرسين العقيدة السليمة عند أطفالك؟؟؟
(يتبع)
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن