محطات العبادة
انطلاقاً من جَعْل الله العبادة هي الهدف الأوحد من الخَلْق، كان حريٌّ بالمسلم أن يتوقّف عند هذا الهدف ليعرف حقيقته، طالما أنّ محور حياته يدور حوله؛ قال تعالى: (وما خلقت الجنَّ والإنسَ إلا ليعبدون).
والسؤال الذي يطرح نفسه أمام هذه الغاية الكبرى من الوجود:
هل يعرف كل مسلم حقيقة العبادة طالما آمن بأنها جوهر وجوده؟ فما هي العبادة إذاً؟
العبادة في اللغة: التذليل.
والعبادة: هي الخضوع، والتذلل، والاستكانة. وهي التقرب إلى الله وحده بأقصى غايات الخضوع والتذلُّل له فيما شرعه لعباده، وهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال، والأفعال، الظاهرة، والباطنة. وهذا يدل على شمولية العبادة، فهي تشمل:
- أولاً: العبادات القلبية: وهي تنقسم إلى قسمين:
أ. "قول القلب"، وتسمى "اعتقادية"، وهي: اعتقاد أنه لا رب إلا الله، وأنه لا أحد يستحق أن يعبد سواه، والإيمان بجميع أسمائه وصفاته، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، وغير ذلك.
ب. "عمل القلب"، ومنها: الإخلاص، ومحبة الله تعالى، والرجاء لثوابه، والخوف من عقابه، والتوكل عليه، والصبر على فعل أوامره، وعلى اجتناب نواهيه، وغيرها.
- ثانياً: العبادات القولية: ومنها: النطق بكلمة التوحيد، وقراءة القرآن، وذكر الله تعالى بالتسبيح والتحميد وغيرهما، والدعوة إلى الله تعالى، وتعليم العلم الشرعي، وغير ذلك.
ثالثاً: العبادات البدنية: ومنها: الصلاة، والسجود، والصوم، والحج، والطواف، والجهاد، وطلب العلم الشرعي، وغير ذلك.
رابعاً: العبادات المالية: ومنها: الزكاة، والصدقة، والذبح، والنَّذر، وغيرها.
خامساً: فعل الواجبات والمندوبات التي ليست في الأصل من العبادات، ومن ذلك: النفقة على النفس أو على الزوجة والأولاد، وقضاء الدَّين، والهدية، وبر الوالدين، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، وغيرها. فإذا فعل المسلم هذه الواجبات أو المندوبات مبتغياً بذلك وجه الله تعالى، كأن ينفق على نفسه بنية التقوي على طاعة الله، وكأن ينفق على أولاده بنية امتثال أمر الله، وبنية تربية الأولاد؛ ليعبدوا الله، كان ذلك كله عبادة يثاب عليها. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة، وهو يحتسبُها كانت له صدقة" متفق عليه.
سادساً: ترك المحرمات، ابتغاء وجه الله تعالى: ومن ذلك ترك الربا، وترك السرقة، وترك الغش وغيرها، فإذا تركها المسلم طلباً لثواب الله، وخوفاً من عقابه، وامتثالاً لنهيه، كان ذلك عبادة يثاب عليها. ومما يدل على ذلك حديث أبي هريرة عن النبي أنه قال: "يقول الله تعالى: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عَمِلها فاكتبوها له بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف" متفق عليه.
سابعاً: فعل المباحات ابتغاء وجه الله تعالى، ومن ذلك: النوم، والأكل، والبيع والشراء، وغيرهما من أنواع التكسب، فهذه الأشياء وما يشبهها في الأصل مباحة، فإذا نوى المسلم بفعلها التقوي بها على طاعة الله، وما أشبه ذلك، كان ذلك عبادة يثاب عليها.
شروط العبادة وأركانها:
حقيقة عبادة الله تعالى وأصلها: كمال المحبة له مع كمال الذل والخضوع. فمن يحب من لا يخضع له، فليس عابداً له، وكذلك من يخضع ويذل لمن لا يحبه فليس عابداً له. وعبادة الله تعالى لا تكون مقبولة ولا مرضية له جل وعلا حتى تستكمل شروطها وأركانها.
•وللعبادة شرطان هما:
- الإخلاص لله عز جل بأن يقصد بها وجه الله والدار الآخرة، لا يقصد بها رياء ولا سمعة. قال الله تعالى: (وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين). وبناء على هذا الشرط فمن أدى العبادة ونوى بها غير وجه الله، كأن يريد مدح الناس، أو يريد مصلحة دنيوية، أو فعلها تقليداً لغيره دون أن يقصد بعمله وجه الله، أو أراد بعبادته التقرب إلى أحد من الخلق، أو فعلها خوفاً من السلطان أو من غيره، فلا تقبل منه، ولا يثاب عليها.
- واتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيها قولاً وفعلاً. فلا يزيد في عبادته عملاً أو قولاً لم يرد فيهما، قال الله تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا {الحشر: 7}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" متفق عليه. • حكمة الله في تنويع العبادات وتوزيعها: إن من حكمة الله تعالى ورحمته بعباده أن نوّع لهم في العبادات حتى لا يملّوا، وإن لتعدد مواسم العبادة تجديدٌ لنشاط الإنسان ودفعٌ لهمّته ورفعٌ لها. كما أنّ هذه المواسم هي هدايا من الله لعباده، يتيح لهم فيها أن يصححوا مسار حياتهم، ويستأنفوا توجُّههم بشكل قويم إلى ربهم.
محطات العبادة:
والعبادة تشمل جميع جوانب حياة الإنسان ومجالاتها، وهي تنقسم إلى عبادات:
. يومية
. أسبوعية
. شهرية
. سنوية
. موسمية
فللمسلم في كلّ يوم محطات يلتقي فيها مع ربه ويقف بين يديه خمس مرات في اليوم والليلة، فالصلاة هي معراج الروح والصلة الوثيقة بين العبد وربه، ومن أرادت أن تستكثر فعليها بصلاة الضحى فمن أداها فقد أدى شكر مفاصله التي وهبه الله إياها، ومَن أرادت أن تزيد أكثر فعليها بصلاة التهجُّد، ولا يخفى ما لصلاة الليل بما تشتمل عليه من فضائل. ومن العبادات اليومية ما علّمنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إياه من أذكار الصباح والمساء.
-ولنا في كل أسبوع محطة عبادة هي عيدٌ للمسلمين وهي يوم الجمعة وصلاته، وما يسبق ذلك من سنن وآداب منها الاغتسال والإكثار من الصلاة على النبي وتلاوة سورة الكهف. ومَن أرادت الاستكثار فعليها بصيام الاثنين والخميس.
ومن العبادات الشهرية: صيام الأيام البيض وهي ثلاث: 13 و 14 و15 من كل شهر عربي.
أما العبادات السنوية فهي محطات كبرى يعيد فيها المسلم حساباته ويحاول تعويض ما يفوِّته من عبادات وتطهير ما يقترفه من معاصٍ ومنكرات أثناء السنة، وهي: شهر رمضان وما يشتمل عليه من خصوصيات، ومَن أرادت الاستكثار فلتُتبِعه بسِت من شوال. ومنها: دفع زكاة المال بعد اكتمال النِّصاب وبلوغ الحَوْل للمستحقين، ومَن أرادت الاستكثار فلها أن تؤدي هذا الحق وهي يتلم أنه يطهِّر ماله وينمّيه، ومَن أرادت أن تستكثر فعليها بصدقة التطوُّع طيلة العام. وحجّ بيت الله لمن استطاعت، وإنَّ من أبرز مظاهر الحج إعلان العبودية الخالصة لله من خلال نداء الحجيج: (لبيكَ اللهم لكَ لبّيك...) وبالمقابل إعلان الحرب على الشيطان من خلال عبادة الرجم، وما يجب أن يمثِّله هذان الإعلانان في حياة المسلم، وما يكلِّفه ذلك من تَبِعات عليه الالتزام بها. ولغير الحاجّة التزوّد في أيام العشر من ذي الحجة، وهي الأيام التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام" يعني أيام العشر. قالوا يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلاَّ رجلٌ خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء"، وأفضلها يوم عرفة وصيامه يكفِّر ذنوب سنتين الماضية والباقية. ويُستَحبّ في هذه الأيام الاستكثار من الذِّكر والدعاء وخاصةً التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير.
-أما العبادات الموسمية فلعلها تتجلى في قوله صلى الله عليه وسلم: "الشتاء ربيعُ المؤمن طال نهارُه فصامَه، وقَصُر ليلُه فقامه"، فالربيع يعبِّر عن الشباب وعن الحياة، فكأنما صلى الله عليه وسلم يلفت نظر المسلم إلى أنَّ في العبادة حياة له وشبابٌ متجدِّد.
ولا ننسى ما يتخلَّل كل تلك المحطات من عبادات مثل التفكُّر في عظيم خلق الله، والذِّكر وتلاوة القرآن وهي أعظم الذكر، بالإضافة للدعاء الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم بأنه: مخ العبادة.
وما تلك المحطّات إلا نفحات من ريح الجنة، فإذا هبّت تلك النسائم فما على المسلم إلا المسارعة في اغتنامها، يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إن لله في أيام دهركم لنفحات، ألا فتعرضوا لها".
انعكاسات العبادات على حياة المسلم:
- على الصعيد الإيماني: فالإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وكلّما استكثر المسلم من القُرُبات زاد رصيده الإيماني، وزاد قرباً من الله "ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه: فإذا أحبَبتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصِر به، ويدَه التي يبطش بها، ولئن سألني لأعطينّه ولئن استعاذ بي لأُعيذنّه".
- على صعيد الصحة النفسية والجسدية: فالذِّكر يمنح الإنسان طاقة نفسية كبيرة تنعكس على قلبه سلاماً وطمأنينة، وهذا سرُّ قوله تعالى: (ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب؟) وقوله: (فيه شفاءٌ للناس)، (وشفاءٌ لما في الصدور) عن القرآن الكريم وهو أعظمُ الذِّكر. . والصلاة الكاملة قد جعلها الله سِمة وارثي الفِردَوٍس: (قد أفلح المؤمنون . الذين هم في صلاتهم خاشعون...)، ومن أبرز صفات عبادِ الرحمن أنهم: (الذين يبيتون لربِّهم سُجَّداً وقياما). وهي التي كان الرسول يقصدها بقوله: (أَرِحنا بها يا بلال) عندما تعصف به الهموم. ولقد أثبت العلم ما لأركان الركوع والسجود والقيام من فوائد صحية على العظام والمفاصل، كما أثبتوا أنَّ السجود يعطي للمصلي طاقة كبيرة بمجرد أن يطأَ جبينُه الأرض. . وفي الصيام شفاءٌ للكثير من الأمراض، وهناك مستشفيات في الغرب تعتمد نظام الصوم في علاج مرضاها، وإنَّ في التزام أدبيات الصيام راحة نفسية كبيرة لمن يدرِّب نفسه على ذلك.
- على صعيد الحياة الاجتماعية: في بعض العبادات تكريس لمعاني الوحدة بين المسلمين: فالصلاة في جماعة تقوّي العلاقات بين المسلمين، وكذلك الصيام حيث يصوم المسلمون ويُفطِرون في وقتٍ واحد، ويتسابقون في تفطير بعضهم، وفي الحج ينعقد أكبر مؤتمر في العالم، مؤتمر لا يشاركه في خصائصه أيٍّ من سائر المؤتمرات: فالغني يجتمع مع الفقير، والأمي يجتمع مع المتعلِّم، والقويّ يلتقي مع الضعيف، والمقرَّب من الله يلتقي مع المسرِف في المعاصي... يجتمعون جميعاً في انسجامٍ عجيب لا نجد له مثيل. . التكافل الاجتماعي بين المسلمين: وهذا يتجلّى في أوضح معانيه في عبادةِ الزكاة، تكافلٌ اجتماعيٌ بين المسلمين. وفي الحض على إكرام اليتيم وكفالته وتعهده بالرعاية صورة رائعة أيضاً من معاني التكافل الإنساني.
- على صعيد تنمية القُدُرات وتدعيم المهارات:
* تقوية الإرادة: فالعبادات بمجملها تحتاج إلى قوّة إرادة للالتزام بها، فالصلاة قد وصفها الله بأنها: (كبيرة إلا على الخاشعين)، والمسلم الذي يلتزم الصيام بكل ما فيه من ترك للمباحات ومن تجنُّب للمعاصي، ومن ضبط النفس بقوله: إني صائم، يحتاج إلى عزم وإرادة، وكذلك الحج بما فيه من مشقّات، ولا ريب أنّ الرسول قد جعل جهاد المرأة الحج.
والزكاة والصدقة تحتاجان إلى التغلُّب على هوى النفس، إذاً فالعبادات تربّي المسلم وتدرِّبه على قوّة الإرادة. . التربية على احترام الوقت وتنظيمه والدقة في المواعيد: فهناك أذكارٌ في الصباح وأخرى في المساء، وقد جعل الله قرآن الفجرِ مشهوداً، وهناك أوقات يُستَجاب فيها الدعاء، والصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا، والصيام في شهر رمضان، والحج في شهر الحج، وكلّ عبادة لها وقتها...
وهذا التنظيم للعبادات والتوقيت لها إنما يربي المسلم على احترام الوقت والدقة في المواعيد.
* إتقان العمل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن اللهَ يُحبُّ إذا عَمِل أحدُكم عملاً أن يُتقِنه". والأعمال لا تؤتي ثمارها إلا بالإتقان، وكذلك العبادات لا يجني المسلم ثمرتها وفوائدها النفسية والجسدية والاجتماعية والعملية إلا بإتقانها، فالصلاة يلزمها الخشوع، والذِّكر يحتاج إلى حضور قلب، وكذلك الدعاء "لأن الله لا يقبل من عبدٍ لاهٍ"، والصيام يحتاج إلى مراقبة لله عزّ وجل، وسائر الأعمال والعبادات كلها تحتاج إلى بلوغ مرتبة الإحسان، والإسلام يربّي في المسلم حسّ المراقبة لله عزّ وجل. وكلما أدّى المسلم حقّ الله في طاعته يكون قد ارتقى درجة بعد خطوة في طريقه لبلوغ القمة.
ما الذي يمنع المسلم من الاستفادة من مواسم العبادات؟
- عدم استحضار الهدف من العبادة، فمعظمنا إلا مَن رحم الله يؤدي العبادات لأنه تعوّد أن يؤديها، ويعيش شكلها وهيئتِها دون روحها وحقيقتها، فانقلبت عنده العبادة إلا عادة وفقد الإحساس بحلاوتها.
- الإصرار على صغائر الذنوب، وارتكاب الكبائر، فهذا مما يحرم المسلم لَذّةَ العبادة، وكلما استكثر من المعاصي زاد بُعداً، وكل معصية تنكت في قلب صاحبها نُكتة سوداء، وكل حسنة تنكت في قلب صاحبها نُكتة بيضاء: حتى تصبح القلوب إما سوداء مظلمة أو بيضاء مضيئة.
فما هو الحل؟
هناك العديد من طرق الاستفادة من مواسم العبادة، منها:
- عقد العزم بإخلاص على الإقبال على العبادة.
- العزم على تغيير نمط حياة الإنسان للأحسن.
- الدعاء إلى الله بتضرُّع وتذلُّل فهو الموفِّق لكلِّ خير.
- وضع خطة عبادة والالتزام بها، مع مراعاة التدرُّج سعياً للالتزام والثبات. ولكي تنجح خطتك لا بد من أن تكون مكتوبة.
وختاماً كل ما تقدَّم يحتاج من المسلم همة عالية تنهض به نحو القمة، وتذكِّره كلما ضعف، وتؤمِّله كلما أصابه إحباط. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
* أصلها محاضرة نظمها قسم الطالبات في المنتدى الطلابي بمناسبة العشر الأوائل من ذي الحجة من عام 2007.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن