هل يجتمع الحب والحزم في التربية؟
أيتها المربية الفاضلة:
احرصي على الطاعة والانضباط (وعلى خضوع ابنك لسلطة والديه):
"الإنسان الواعي الفاهم" يَحترِم المسنَّ والكبير، ويُقدِّر ذا المكانة، ويقبل الخضوعَ لمن هو أعلى منه في الرُّتبة، ويكون مُنضبِطًا؛ إنه يعلم أن الناس مقامات، وعليه أن ينصاع لرئيسه، والوالدان هما الرئيس الأعلى للابن؛ فعليه "خفْض الجناح لهما"، و"خفض الجناح" مرتبة عالية تلي الإيمان، وإن لم يتعوَّد الصغير على الخضوع لوالديه بالطاعة فلن يخضع لأحد، والخضوع للسلطة أمر مهم جدًّا؛ لما جاء في الحديث الصحيح: ((اسمعوا وأطيعوا ولو استُعمِل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة))، ومن لم يتعوَّد الطاعة والانضباط في صغره، شذَّ عن الجماعة في كِبَره، وقد يخرج على الإمام، وهذا أمر خطير.
أيتها المربية الفاضلة:
هل تعرفين لماذا يتمرَّد أولادنا على نصائحنا؟
هل تعلمين لماذا نفْقِد احترام أولادنا لنا؟
هل تعلمين لماذا استشرى الفساد وكثر العقوق؟
كل هذا سببه عدم وجود السلطة، وشعور الأبناء بأنه لا مرجِع لهم يَحترمونه فيَستشيرونه.
فكوني أنت السلطة وأنت المرجِع، تملَّكي ابنك فلا يَزيغ منك أبدًا، وإذا صدف وجرَفه التيار -دون عِلمك - وحاد عن الحق، سَهُل رجوعه وعاد إليك راضيًا قانعًا.
خضوع ابنك لسلطة أعلى - هي والداه - شيء أساسي وضروري جدًّا في عملية التربية؛ ولذلك قالوا قديمًا: "إن الله لَيزَعُ بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
والصغير ضعيف - مهما بدا قويًّا - ومقلقل - وإن بدا واثقًا - ولأجل ذلك كثيرًا ما يحتار ويتردَّد: "كيف يَسلُك؟ وهل يفعل هذا الأمر أو يَمتنِع عنه؟"، فينظر إلى والديه مُستفهمًا، أو يُقدِم على الأمر وينتظر ردَّة فِعْلهما، والولد في هذه المواقف يتوقُ إلى التوجيه ويسعد بالنصيحة.
ومهما كان الصغير مشاكسًا تبقى ثِقتُه في أهله كبيرة، فينتظر رأيهم، ويحب الحزم ويَسعد بالحسم، ويسره أن يَضبِط والداه سلوكه ويحدَّا من طيشه، أي الابن يَثِق بأهله بالفطرة، ويُسعِده الانصياع لهما، ولهذا فائدتان:
1- يرتدع عن الخطأ ويتعلَّم الصواب.
2- يشعر بأهميَّته عند أهله وبحرصهم عليه.
فحافظي على هذه الفِطْرة (الثقة والانصياع)، واستثمريها في تربيتِك لابنك تُفلحي وتنجحي، ولكن من الناس من يُهمِل هاتين الناحيتين، ولا يُعطيهما حقَّهما، ويترك ضبْط أولاده، فإذا كَبِروا وظهر فسادُهم لم يَعُد ينفع فيهم نُصْح ولا توجيه.
ومن ترَك أولاده هملاً فلن يحترموه ولن يُقدِّروا تضحياته، وقد يخرجون عن طاعته، فيخسر برَّهم، ويتسبَّب في عقوقهم (لا قدَّر الله)، فلا تسوقي ابنك إلى الاستغناء عن بُعْد نظرِك وعُمْق تجارِبك، ولا تدفعيه إلى الاستخفاف بشخصيَّتك، بل أعينيه على تقديرك وبرِّك.
ولا تظني صغيرك سيصير يومًا أفقه منك وأنضج! فأنت أيتها المربية - مهما كانت ثقافتك وبيئتك - أعلم من طفلك، ومهما كَبِر وخبَر الحياة فإن خبرتك أكبر، ولو تعلَّم ابنك وحمل أعظم الشهادات، فإن ذلك لا يجعله أكبر منك سنًّا ولا أوزن مقامًا، ومهما تغيَّر الزمن وتبدَّلت الأعراف، فإن القيم والمبادئ والدين لا تتغيَّر، وسيبقى للأم مكانتها وقدْرها وعلوُّ شأنها، ويبقى احترامها وتقديرها وبرها قائمًا على مدار الزمان، فاهتمي بتعزيز هذه المفاهيم من الصغر (وكررتُ هذا الكلام لأهميته فاعذريني).
إن الطريقة المُثلى لتربية الانضباط تَكمُن في أمرين مهمين جدًّا:
أولاً: وضْع قواعد ثابتة واضحة، وقوانين منطقيَّة (فلا مجال لخَرْقها).
ثانيًا: سلطة قوية تَضمَن التزامهم بالقوانين، وتكون مرجعًا لهم حين تَلتبِس الأمور عليهم.
وإليك الشرح والتفصيل:
قلنا: "أولاً وضْع قواعد ثابتة واضحة، وقوانين منطقيَّة"؛ لأن الإنسان بحاجة لقوانين تضبطه، (والحرية الكاملة للمجانين)، و"الرجل" الكبير يُدرِك أبعادَ الأمور، ورغم ذلك يحتاج لقوانين تَضبِط سلوكه (في البيت والعمل والشارع)، فكيف بالصغير الذي يَعجِز عن الإدراك؟
والمفروض أن يتعلَّم الصغير كبْحَ رغباته، والالتزام بالنظام، فالدنيا هكذا: (الإشارة الحمراء تُوقِف المستعجِل، وموعد المدرسة يُوقِظ الطالبَ المُستغرِق في النوم، والصلاة تؤجِّل أيَّ نشاط آخر)، وعلى الإنسان أن يَنصاع لهذه القواعد شاء أم أبى، وأن يلتزم بالقوانين ولو بغير رغبتِه؛ لأن منفعتها أعظم من مشقَّتها، وعاقبتها خير وأبقى.
وأقصد بالقوانين تلك التي ترتبِط بالدين والقيم والأخلاق والذوق، وسأضرب مثالاً لكل واحدة من هذه الأربعة: لا يكذب أبدًا، لا يأخذ ما ليس يَملِكه إلا بإذن صاحبه (حوائج إخوته الخاصة)، لا يَسُب ولا يُفحِش في القول، لا يخرج من باب الدار بلا عِلْمك، ويلتزم الهدوء إذا نام والده.
وكوني صارمة في أمور السلامة العامة، (فلا يتسلَّق إلى الأماكن العالية، ولا يلعب بالكبريت)، ويَلحقها الصرامة في الآداب الاجتماعية، وفيما يَخُص النظافة والترتيب، فاجعلي للبيت بضعة قوانين لا يُمكِن خَرْقها ولا مخالفتها مهما كان، وعليه الانصياع للمسموح والممنوع (ولو كان أمرًا بسيطًا)، مثلاً: لا يُدخِل أي طعام إلى غرف النوم، يُنظِّف أسنانه قبل المبيت، يدخل إلى فراشه في الوقت المحدد، يجلس إلى المائدة وقت الغداء، ويُشارِك العائلة الكلام والطعام، (ولكل أم رأي في إدارة بيتها، فضَعِي ما شئتِ من القوانين، واختاري ما يتناسب مع شخصيتك وظروفك).
ولا تقلقي على ابنك ولا تحزني عليه من مشقَّة الالتزام بالقوانين؛ فالخضوع للسلطة فِطرة لدى الناس الأسوياء، والطاعة - لدى الصغير - عمليَّة لا تفكير فيها، ومع الأيام تصبح عادة عنده، وقد يتذمَّر من بعض الأوامر وقد يَمتعِض، على أنه سيتقبَّل أكثرها ولن يتضايق منها أبدًا، جرِّبي وسترين كيف سينصاع لك ولدك، وسيضبط نفسه عن طيب خاطر، بل لو أشفقتِ عليه مرة وسمحتِ بخرق القانون لن يقبل هو بهذا وسيُصمِّم على الالتزام به!
وليس في هذا أي ظُلْم للطفل؛ فقد جاء في كتب (علم النفس) أن الصغار يستطيعون أن يتعلَّموا - وفي سن مبكِّرة - ألا يكذبوا وألا يسرقوا وألا يتشاجروا، والقوانين الواضحة تُشجِّع على الانصياع، وتريح الصغير وتُيسِّر التعامل بينكما، وتُسهِّل عليه إرضاءَك، والتزامه بالقوانين تلك سيجعله متميزًا، وذا صفات راقية وهمة عالية، وسيثير إعجاب الجميع.
وإن الطفل الصغير لن يَنضبِط إلا إذا احترم والديه، وقدَّر فضلهما، وشعَر بسلطتهما وقوتهما، ولن يَحترِمهما ويُقدِّرهما إلا إذا فرضنا عليه بضعة أشياء، وهي أشياء سهلة بسيطة غير معقَّدة، هي من الأدب، والإسلام يَحُث عليها، وها هي بعض الأشياء المطلوبة من الصغير والتي لا يُمكِنه خرْقها إلا في حال الضرورة القصوى:
1- الصغير لا ينادي والديه ليكونا بين يديه، بل يأتي هو إليهما بنفسه حين يحتاجهما (إلا إن كان في مأزق).
2- لا يمشي أمامهما، ولا يدخل المكان قبلهما، ولا يبدأ طعامه دونهما، ويستأذن قبل الدخول عليهما، ولا يَقطع حديثهما.
ولا يتباسط معهما فينادي أمه باسمها، أو يَمزَح كما يمزح مع صديقه فيدفعها بيده.
3- لا يتكلَّم عنهما باستخفاف، ولا يُقلِّل من شأنهما في حضورهما أو غَيبتهما، وبعض الأمهات تَظنُّه خيرًا فتوحي لصغيرها بأنه ذكي وكبير وحكيم، وقد بلغ مبلغ الرجال وصار صاحب رأي، وبالمقابل هي ليست كذلك؛ لأنها لم تتعلَّم في الجامعات، ولأنها أنثى ضعيفة وتَنقُصها الرويَّة والحكمة، ولا تستطيع أن تكون قوَّامة على ابنها الذَّكر، والأم تفعله لبعث الرجولة في ابنها، ولمساعدته على التعقل، ولكن هذه الطريقة خاطئة؛ لأنها توحي للصغير بأنه أقدر من أمه وأفهمُ، فتسقط أمه من عينه، ويَقِلُّ شأنها في نظره، فيتطاول عليها، ويضحك من نصائحها، ويُعيِّرها بالجهل، وتكون وكأنها علَّمته العصيان، وشجَّعته على التمرد، وهيَّأته ليكون عاقًّا.
فإياكِ ثم إياك أن تُقلِّلي من شأنك أمام ابنك؛ إذ يجب أن يَثِق فيك وبرأيك وبحكمتك، وأن تكوني وأباه مرجعه في المشورة والسؤال، وصحيح كونكما بشرًا، وقد تخطئان وأنتما من زمن غير زمنه، إلا أنكما في النهاية والداه ومربِّياه، والله أمَره ببركما وطاعتكما، فأبقيا لنفسكما هذه المكانة؛ لتستطيعا ضبْطه وردْعه ولجمه عن طريق السوء، وإيقافه عن المنكرات.
وصحيح أنك أنثى، إلا أن الله رفَعك فوق ابنك، والأم تكون قوَّامة على ولدها، ووصيَّة عليه، ومربِّية له، فلا تتركي هذه المهمة أبدًا، وإنك إن قمتِ بهذا ملكتِ ابنك، وضمِنتِ الخير له في الدارين، وهذه القاعدة تَكفيك عن قراءة هذا الكتاب لو طبَّقتِها، وتكفيك عن قراءة كتب التربية كلها!
4- لا يَقُلْ لكما: "أف"، (أو ما يُعادِلها من الكلمات) مهما كان السبب، فإنْ قالها ازجريه فورًا، ولا تسكتي عنه أبدًا، فهذا مما جاء النهي عنه في القرآن، وإياك أن تتهاوني؛ لأنه صغير لا يفهم، أو لأن ذلك حلو منه ولطيف، أو لأنك مُتعَبة أو مشغولة وستؤجلين التأديب لوقت تكونين فيه أفضل، إن العلاج لا يتطلَّب منك الآن إلا بضع كلمات، فقولي له: "الأم لا تُخاطَب هكذا، تكلم معي بأدب"، قوليها مهما كانت ظروفك، فإن أهملتِها الآن خرج الأمر من يدك بعد سنوات وجنيتِ عاقبة ذلك.
5- الابن لا يرفع صوتَه على صوت أمه أبدًا، فإن فعَل نبِّهيه بصوت منخفض وبلهجة حازمة، (اللهجة الحازمة تكون: بكلمات قليلة وبطيئة مع الاتكاء على الحروف، وأيضًا: إعطاء المعنى حقَّه من خلال النظر الثابت الثاقب، ومع حركات اليد والوجه الصارمة المناسبة للموقف)، ولا تسمعي للصغير، ولا تستجيبي له حتى يهدأ تمامًا، ويَغُض من صوته.
6- وإن تطاول عليك بالسلوك، فرمى الأشياء على الأرض بقوة ليُعبِّر عن غضبه، أو أمسك تحفة كنتِ قد نهيتِه عن الاقتراب منها، أو ضرب الأرض برِجْليه... فإياك أن تدعيه يُتابِع، واستعملي لهجةَ الحزم نفسَها مع قولك: "كفَّ عن هذا".
ولا تقولي: "زوجي عصبي وابنه مثله!" فهذا خطأ، والصغيرُ يُقلِّد أباه وليس عصبيًّا بطبعه، والعصبية أكثرها مُكتَسب، والكبير مرفوض منه التعصُّب والغضب (ولو كان له ما يُبرِّره)، فكيف بالصغير الذي لم يرَ شيئًا من الحياة؟ إنه يختبر أهله ويتدلَّل عليهم لينصاعوا له، فإياك أن تستجيبي، وإلا جعل من كل شيء سببًا يتمرَّد من أجله ليحصل على مبتغاه.
والعلاج في أن تُظهري الغضبَ على وجهك، وتمسكيه بقوة من ساعديه وتنظري في عينيه، وتهزيه بقسوة، وأن تقولي له وبمنتهى الهدوء والصرامة: "أنا لا أسمح بهذا السلوك أبدًا، وإياك ثم إياك أن تُكرِّره"، كوني جادة، وسترين كيف سيخاف، ولن يعود لمثله، وإن عاد كرِّري العملية ذاتها، وكلما كان صغيرًا كان أسرع استجابة، وكان العلاج ذاك ناجعًا.
7- وينبغي أن يُطيع الصغيرُ أيَّ أمرٍ يَصدُر من والديه بلا جدال، ولا ضير - حين يَكبَر قليلاً - في أن يَستفسِرَ أو يُناقِش، شرط أن يكون مهذَّبًا في الأسلوب، وخلال كلامه معك احتفِظي بدرجة الأمومة التي وضَعها الله بينك وبينه، لا تَسمحي له أن يتطاول عليك أو يلومك، بل يُبدي اعتراضه بأدب، ثم يسمع ردَّك عليه، وإذا لم يُجدِ اعتراضه فعليه الانصياع؛ فالسمع والطاعة - في غير معصية - في المنشط والمكرَهِ من صفات المسلم.
8- عوِّدي صغيرك على استشارتك في كل أمر يَعرِض له، فلا يأتيك قائلاً: "أعطيني نقودًا لأني سأشارك في رحلة المدرسة"، بل يأتيك سائلاً مستفتيًا: "ما رأيك يا أمي هل أُشارِك الطلاب في الرحلة؟"، فرأيك مهم في حياته، وليتعوَّد أنه يعيش مع عائلة، فلا يتصرَّف إلا بمعرفتها وموافقتها، ولا تظني الاستشارة تَمحَق الشخصية وضد الرجولة، وإنما هي منها، ومن يعيش أصلاً بلا استشارة؟ ولو لم تَسبقي وتكوني مستشارة لابنك لصار رِفاق السوء مستشاريه وقُدوتَه.
♦ ♦ ♦
والمسلم ينصاع ويُطيع، ولكن لا يكون إمَّعة، فعلِّمي ابنك ألا يستجيب لما يُخالِف الشرع من الأوامر، وألا يخضع لأي عُرْف، ولا يسمع للعادات والتقاليد أن تُسيِّره كما تشاء، وإنما يَستنكِف عما ينافي الإسلام والمروءة منها، ويَستبعِده من حياته.
الخلاصة: يجب أن ينظر الصغير إلى والديه بعين الإجلال والاحترام والتقدير، ويتقبَّل قولهما ونُصْحهما بقلب كبير وسَعة صدر واهتمام، ويكون حريصًا على برهما وحُسْن معاملتهما، ويُطيعهما في كل أمر حلال.
هذا بالنسبة لـ: (أولاً: القواعد والقوانين).
وأما "ثانيًا: سلطة قوية تَضمَن التزامهم، وتكون مرجعًا لهم حين تلتبِس الأمور عليهم"، فأقول للأمهات:
"الانضباط" بالذات لا يتعلَّمه الطفل وحده (بلا تنبيه)، ولا يتعلَّمه من خلال التجرِبة الذاتية؛ (أقصد يُجرِّب الصغير العصيان ويُعاني من عواقبه، فيَعرف قدرَ حِكمة والديه)، وإنما يكون بالإجبار والقهر، ويأتي بالتدريب والتعويد، ويحتاج إلى سلطة قويَّة لينصاع الصغير.
فإياك إياك ألا تضبطي ابنك؛ فعدم الضبط يعني تربية بذور العقوق، وهذا سيعُود عليك بالسوء في الدنيا، وستندمين - لا سمح الله - حين لا ينفع الندم، وسيعُود على ابنك وبالُه في الدنيا؛ (لأن عقوبة العقوق معجَّلة)، وفوقها لن ينجو من عقاب الآخرة، فإذا كنت تحبين ابنك حقًّا: "اضبطي سلوكه ببعض القوانين"، وبذلك تُربِّين في داخله قيمًا كبيرة: "البر، الانضباط، الطاعة، الاحترام، الوفاء"، وسينمو معهم الحسُّ السليم، وهذه القيم ستَحميه من الداخل: "من نفسه، وتحميه من شهواته، وتحميه من رُفقاء السوء"، وهي - إن شاء الله - كافية جدًّا ليبقى دائمًا على الصراط السوي.
كيف تجعلين ولدك مطيعًا وملتزمًا بالقوانين التي سبق وضْعها؟:
1- بكِّري في أمره ونهيه، وكوني حازمة:
ابدئي تطويعه للقوانين منذ الأشهر الأولى (ولا تؤجِّلي)، أرأيت لو أمسك طفلك مسمارًا حديديًّا وأدخله في قابس الكهرباء، ما كنت فاعلة؟ كنت ستمنعينه بكل قوة خوفًا على حياته، وتُصرِّين على ضرورة التزامه بهذا القانون: "الامتناع عن لمس قوابس الكهرباء، مهما كان السبب"، وكذلك افعلي بقضايا احترامك والانصياع لسلطتك والانضباط بقوانينك، فكما أن القانون الأول مُهم لسلامة ابنك، ومهم لبقائه على قيد الحياة، فالقانون الآخر مهم جدًّا ليعيش ابنك حياة صحيحة ترضي الله، فيُوفِّقه في رزقه ومعاشه.
وستسألين: كيف أطوِّعه للقوانين؟
والجواب: "منذ نشأته الأولى مُرِيه وعلِّميه تنفيذ الأوامر"، مثلاً حين يبدأ بالعبث بأغراض البيت ويمسك التحف قولي له: "لا"، سينظر إليك ليَدرُس تعابير وجهك، كوني جادة وكرري: "لا"، بعض الأطفال لا يفهمون، أو يحبون التمرد، فكرري الأمر، اضربيه ضربة خفيفة على سطح كفه ليَفهم، وهكذا، اتركي التحف في مكانها، واستمري في منْعه من مسِّها، وستُدهِشك استجابته، وكلما كَبِر ازدادت الأوامر والقوانين الثابتة "علِّق البيجاما خلف باب الحمام قبل ذَهابك للمدرسة، وحين تعود ضَع ملابس المدرسة داخل الغسالة"، وأمثال هذا، لتكن أوامرك الآنية واضحة جليَّة، مثلاً: "أعطني الملعقة"، "ضع الحليب في الثلاجة"، وهكذا يَفهم ويُنفِّذ.
والمطلوب منه أيضًا: لا يضربك، ولا يصرخ في وجهك، ولا يقول: "لا" لأمرك.
2- قللي كلمة: "لا" قدر الإمكان:
القوانين أمر مفروغ منه في حياة الصغار (والكبار)، والسلطة المرجعيَّة ضرورية جدًّا فينبغي أن يُشاوِر الصغيرُ والديه قبل إقدامه على أي أمر، ثم لا يفعله إلا بعد صدور الموافقة، وخلال الحياة اليومية سيحتاج الصغير لإذن منك في الأشياء (التي لا تشملها القوانين التي سبق وربَّيته عليها)، ونصيحتي أن تُوافِقي على أغلبها، وتقللي كلمة: "لا" قدْر الإمكان، أعطي ابنك الحرية الكاملة في البيت ما دام لا يؤذي نفسه ولا يخرب المتاع؛ (أي: امنعي ما يؤذيهم أو يؤذونه)، فماذا يَضرُّك لو حمل لُعَبه إلى غرفة الجلوس أو للمطبخ؟ الطفل يفعلها ليكون بصحبتك، فاسمحي له بالتنعُّم بقُرْبك، وماذا لو اتخذ قرارًا بعدم الذَّهاب إلى المدرسة في اليوم المفتوح؟ أو قرَّر شراء علبة ألوان فاخرة من مصروفه؟
وأنا أنصح بأن تُعطي صغيرك مساحة حريَّة كبيرة في هذه الأشياء الأخرى (التي لا تَشملها القوانين)، مثلاً اجعلي لهم غرفة للعب يفعلون بها ما شاؤوا، اسمحي لهم باستقبال أصدقائهم في البيت، ودعيهم يأخذون حريَّتهم أثناء النزهات العائلية فلا تُقيِّديهم بقولك: "لا تتسلَّق الشجرة، لا توسِّخ ملابسك"، باختصار: لا تُفسدي عليهم متعتَهم، دعيهم يَنشطون، وراقبيهم من بعيد، وكم أفسد علينا أهلونا - ونحن صغار - متعتنا، وكم حرَمونا من اللعب اللذيذ خوفًا على اتساخ ثيابنا، أو تَعفُّر أيدينا بالتراب، ويحرِموننا اللعب ثم لا يُعفوننا من الاغتسال حين نعود، ويطلبون منا نفْضَ ملابسنا بعناية، ونقْعها وفرْكها قبل وضْعها مع الغسيل (ولمَّا نلعب بها)! فلا هم تركونا لنسعد في النزهة، ولا هم رحمونا من تَبِعاتها من الاغتسال وعمليات التنظيف.
قلِّلي من كلمة "لا"، وفكري جيدًا قبل قولها، ولكن إذا صدرت منك كلمة "لا" يحسم الموضوع على الفور، وعلى الصغير الطاعة، ولا مجال للخيار مُطلَقًا، ولا تنازلات، ولا مساومات؛ ولذا فكري جيدًا قبل التفوُّه بكلمة: "لا".
كانت هذه هي الخطوات الضرورية لتربية الانضباط، وبقيت بعض التنبيهات:
1- لا تُغري صغيرك بالحوافز والهدايا، هذا خطأ، وطاعة الوالدين غير مشروطة.
2- أبعديه عن أفلام العنف، وحروب السيطرة على العالم، والتنافس على القيادة؛ خوفًا من تأثُّره بها.
3- أحيانًا ستحتاجين للقاعدة الصارمة: "نفِّذ ثم اعترض"، فاتبعيها، ولا تتبعي غيرها؛ أي لا يمكن أن نُقنِع الطفل بكلِّ أمر نوجِّهه إليه، ونُبيِّن له الحكمة منه، ولا يمكننا أن نشرح لأطفالنا عن السر وراء قوانيننا، فينبغي عليه الطاعة دون معرفة الأسباب.
4- لا تُناديه أو تأمريه بعمل ما، وهو مُنسجِم بشيء مُمتِع له، واتركيه ليَفرُغ منه، فيكون مستعدًّا أكثر للانصياع.
أي لا تكوني قاسية مع صغيرك في ضبْطه، فتوصليه إلى مرحلة (اللامبالاة)، فلا يَهتم بك ولا يخاف من العقاب، أو ينصاع ويَنضبِط في حضرتك ويُخالِف في غيبتك، فهذا خطير، بل كوني لطيفة، وقدِّري ظروفه، وراعي أحواله، ولا أقصد أن تُعفيه من الانضباط، وإنما اختاري أحسن الأساليب لتطويعه.
5- ولا تكن لهجتك دائمًا آمرة، بل اجعليها لطيفة في بعض المواقف، مثلاً: هل أنت جائع؟ ما رأيك نأكل؟ فليست العلاقة بيننا وبين أبنائنا أمْرًا ونهيًا، وإنما هي في الأصل أمومةٌ وحب، وولاية على هذا الصغير الضعيف، وتوجيهه للخير، ودفْع الشر عنه.
6- وإذا بدأ طفلك يُشاكِس، قولي بصرامة وبهدوء وبلهجة الواثق جدًّا، وبصوت خفيض: "قلت لك: افعل هذا"، وتَشاغلي وكأنكِ متأكِّدة من انصياعه، ولا تفرحي بمُشاكستِه، وتظنيها من علامات الرجولة؛ فالرجولة ليست في المشاكسة والمشاغبة، ولا في التمرد والعصيان وشقِّ عصا الطاعة، إنها في الانضباط والفَهْم، ولا يجوز للمسلم الاعتراضُ على الوالدين أو الإمام العادل أبدًا، وإنما "الرجولة" في كلمة حق عند سلطان جائر، والرجل لا يخاف في الله لومة لائم فقط أمام الظلمة وعند إحقاق الحق، أما لدى والديه (وأمام المؤمنين) فيكون ذليلاً خافضًا جناحه.
7- فإن وصل صغيرك لسن العاشرة ولم يتعوَّد الانضباط والطاعة، احتجْتِ لحرمانه من بعض الأشياء العزيزة على قلبه (ليتَّعِظ ويترك المشاكسة)، فعاقِبِيه بصرامة ولا تُشفِقي عليه، ولا تبالي باعتراضاته، وإلا فقدتِ السيطرة عليه إلى الأبد.
♦ ♦ ♦
وما أجمل الطاعة والانضباط لو رافَقهما الأدب، فإذا أمرتِ ابنك بشيء قولي له: "لو سمحت، افتح الباب"، "من فضلك، اسقني كوب ماء"، ولا يعني هذا أنه بالخيار إن أراد انصاع لنا وإن لم يُرِد تَمرَّد، لا وإنما هذا تدريب وتعويد له ليكون كذلك مع الآخرين، ومعنا نحن - والديه - بشكل خاص، أما لو كان الأمر يَخُصه (كأن يكتب واجبه أو يُنظِّف أسنانه)، فلسنا مضطرين للتأدب معه؛ (لأن هذا واجب عليه).
وإذا لم ينصَعْ لك صغيرك طفلاً وأنت الأقوى والأقدر والأعقل فمتى سينصاع؟ وبماذا ستَضبطينه حين يُراهِق؟ فابنك يَكبَر ويتقوَّى وأنت تكبرين ويَضعُف جسمك، وقد يتطاول عليك، فأنت بحاجة لهذه السلطة لتَسهُل عليك تربيته، ولتوقفيه عند حده إذا تجاوزه، ولتبعديه عن الحرام، ولتجعليه رجلاً حقيقيًّا.
القاعدة: أنت تتَّخِذين القرار وتأمرين وهو يُنفِّذ، هذا الشرع، وهذا البر، وهذا الأدب، وهذا الخُلُق.
وإذا ملكتِ السلطة على ابنك، فإني أَعِدك بألا يُشاكِسك أثناء مراهقته، وستَسلَسُ تربيته وتوجيهه.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن