وأعتَزِلُكُم..
ضاقت فضاءاتي.. واستحكم الخِناق.. وبلغ السيل الزبى..
أنّى اتّجهتُ كذبٌ وخداعٌ وهمزٌ ولمز.. وأخلاقٌ تُنحر قرابين على مذابحِ المصالح الشخصيّة الضيّقة.. ومعاملاتٌ تجتثُّ الصبر من أعماق القلوب لتدفنه في تربةِ الألم.. ووجوهٌ مشوّهةٌ وقلوبٌ مغمّسةٌ بالسواد.. فإلى متى؟!
في العمل طعنات تتوالى من الخلف ومن الأمام أيضاً.. فلم يعد هناك خجل والكل خلع الأقنعة ليواجه بقباحته ودمامة خلقه الجميع طالما أنه لا خوف من حساب أو عتاب.. يسحقونك دون شعور! وعليك الرضوخ لأنك مضطر لقوت عيالك!
وحيث يجب أن يكون “السكن” لا تجد إلا زوايا تلملم فيها بعض نبضٍ لتزرعه على سجادة الصلاة.. تبكي في خلواتك سعادة تفتقدها وقلباً يحنّ!
والصديق قاسٍ.. والأخ خائن.. والساحة هرجٌ ومرج!
الكل عملة واحدة.. والحلم يختصر الوهم.. تراب يضمّ.. قد يكون أرأف من يأسٍ استفاض..
أنا لستُ متشائمة! أنا واقعيّة!! ومشكلتي أعرفها: طيبة قلبي وحبي للخير وضيقي من سوء الخلق والموبقات.. لا أطيق الكذب والظلم والخداع! وأموت كيداً من المكائد والمؤامرات! ولكنها تلاحقني ويكأنّه لم يبق على وجه الأرض إلايّ ليمارسوا هواياتهم في استهداف قلب الجسد الخائر وشغاف الروح الممزقة!
كلهم مارسوا طقوسهم في الطعن.. ولم يفوِّت أحد منهم الفرصة في تضريج ثوبي بحنّاء الألم..
لله درّ ابن أبي الدنيا القائل “سيأتي على الناس زمان يقال له زمان الذئاب فمن لم يكن في ذلك الزمان كلبا أكلوه” وهوذا زمان الذئاب ولستُ من هذا الفصيل ولن أكون ليرضَوا!!
… سأعتزلُكُم!”
..
هالني هذا الكمّ من الحزن في حديثها.. وهذه الرغبة الجامحة في العزلة والغياب.. ومع أنني أستشعر تماماً حجم المأساة التي تتعرّض لها كما نتعرّض لها نحن جميعاً في مجتمعٍ عمّ فيه البلاء والفتن وفاض فيه اللئام فيضا وغاض فيه الكرام غيضا.. ولكن أتُرى العزلة هي الحل؟!
كثيرٌ من الأحيان تضجّ فينا رغبات تترى.. نعتقد للوهلة الأولى أن فيها الخلاص مما نعانيه من ألم وأنين.. ولكننا بعد أن نخرج من أتون الضيق نجدنا قد دخلنا دهليزاً آخراً سرعان ما نحاول الهروب منه والخروج للضوء.. وقد تكون الرغبة في العزلة والانسلاخ عن المجتمع هي إحدى تلك الرغبات حيث نشعر بأن التلوّث لا بد أن يصل إلينا إن نحن لم ننزوِ عنه.. ولكن السؤال يُكَرَّر.. هل الهروب هو حل؟ وهل هو المطلوب؟!
هل إذا اعتزلنا الناس سينصلح المجتمع؟ مَن سيقوم بواجب التبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وإن انسحب الصالحون المصلِحون من الساحةِ مَن سيقود الجمع؟ ألسنا بذلك نعطي دفّة القيادة – مستسلمين – لذوي الأخلاق الدنيئة والممارسات الخاطئة؟
وما الردّ على حديث الحبيب عليه الصلاة والسلام “المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم”.. ثم أليس “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلّ خير”.. قوي في المواجهة وفي نشر الحق - وعزيمة النفس والصبر على الأذى واحتمال المشاق في ذات الله تعالى – فلِم نرضى بالضعف والتقهقر في مهاوي الإحباط بينما نستطيع بعون الله جل وعلا أن نصدح بالحق ونتحمّل كل ما يصيبنا ويكون الحداء “وعجلت إليك ربي لترضى”..
لم يكن الطريق إلى الله جل وعلا يوماً معبَّداً بالزهور والرياحين بل هو جهاد نفسٍ وقهر هوىً وانسلاخ عن الذات حتى ترّق النفس وترتقي.. وهو صبر لله وفي الله.. وتحمّل المشاق والطعنات من أجل نشر الخير وعدم إعطاء الباطل مجالاً للسيادة..
فالثبات في مجتمع طغت عليه دنايا النفوس وانقلبت فيه موازين الأمور واستشرى فيه الغي والفساد وانعدمت فيه مكارم الأخلاق هو الأصل ليكون صاحب الحق هو النور الذي يهدي بإذنه جل وعلا ويعطي الأمل لمَن صدق وينشر ثقافة الصبر والإصرار فيقتدي به مَن صلح وكان على شفا حفرةٍ من الانزلاق!
في زمن “الذئاب” –الذي عبّر عنه ابن أبي الدنيا- حريٌّ أن لا يملّ الصادقون ولا ينسحب إلى خلواتهم المصلِحون لأن القابض على الدين والأخلاق في زمن الغيّ كالقابض على الجمر.. وإن واجهوا الباطل والطغاة فلهم أجرٌ عظيم.. ولئن تمادى الظلم وافتخر فالحق أحقّ أن يبقى وينتشر..
العزلة ضعف وعجز وهروبٌ من المواجهة.. وهي موقف سلبيّ لن يؤدّي بالنفس إلا إلى مزيدٍ من الضعف والإكتئاب والخور..
أما الشعور بالغربة في هذا الهرج فهو أكثر من طبيعي وللغرباء البشرى! ألم يقل الحبيب عليه الصلاة والسلام “طوبى للغرباء. قيل: من الغرباء؟ قال: أناس صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم”..
غرباء في زمن السوء واندثار الأخلاق وعربدة الظلم.. شعور بالغربة نعم ولكن لا لشعور اليأس والإحباط فإنه “لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون”.. وما خُلِقنا عبثاً ولن يتِرنا الله جل وعلا صبرنا وكل شيءٍ عنده بمقدار وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!
فليذهب أهل الباطل وسوء الأخلاق والمظالم بالدنيا وليذهب أهل الحق والأخلاق والخير بجنّات النعيم.. وشتّان!
هي الدنيا دار ابتلاء والحمد لله الذي عافى أهل الأخلاق مما ابتلى به كثيرٌ من الناس.. والحمد له وحده إذ لم تكن ابتلاءات الصادقين بدينهم.. وما دون ذلك فيهون.. والصبر منجاة.. ومَن وجد الله ماذا فقَد؟!
على أن العزلة مطلوبة أيضاً.. ولكنها عزلة جزئيّة لبعض البشر وفي بعض المواقع.. فإن شعر المرء أن هناك ما ومَن يؤثِّر سلباً على دينه وإيمانه حتى يكاد يخشى على نفسه فعليه أن يعتزل الأشخاص والأماكن التي من شأنها التسبب في انحرافه عن دينه.. على أن لا يترك نفسه من دون تربيةٍ وتقوية إيمان فحين تصلب عقيدته ويقوى عود إيمانه فعليه بإرشاد ونصح مَن استفحل حاله في البُعد عن الله جل وعلا لأنه حينها لن يخشى على نفسه – بإذن الله تعالى – فقد ارتقى سلّماً عاليا..
وقد رويَ عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: “خذوا بحظّكم من العزلة”.. فالقلب بحاجة إلى جلسات روحانية يحاسب فيها نفسه ويذكر ربّه جل وعلا ويجلو صدأ قلبه..
وليبق في الوجدان أن الخير في أمّة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة.. وأنّ أهل الصلاح لن ينقرضوا بل هم في اندماج مع أصحابهم الذين اختاروا الآخرة على الأولى.. والله خير ناصر لهم وخير معين..
.. تغيّرت معالم الأخلاق للأسف.. وساء الزمن.. وذهب الذين يُعاشُ في أكنافهم.. ولكنه قدرنا وما علينا إلا الرضا.. ولنتذكر قول الحبيب عليه الصلاة والسلام “لا يأتي عليكم عام ولا يوم إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم” فالصبر الصبر.. ووالله إنّ رضا الله جل وعلا ثم الجنّة ليستحقان!..
..
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
هل تظنُّون؟!
السنوار... رسالة الرمق الأخير
فلْتَكُنِ العربيّة مادّة وازنة!
من شموس المشرقين.. في تاريخ هذا الدين!
فكُن إيجابيًّا