إني أخاف الله
ما أجلّها وما أعظمها من كلمات، هي للقلوب سراج، وللنفوس زكاة، وللأرواح حياة.. بها تتأدب الجوارح، وتُقمع الشهوات، وتتكدر اللذات. بل هي عنوان الإيمان ومفاتيح الجنان، وحسن الإسلام، قال تعالى: (وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 175)، ويقول أيضاً جل جلاله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً...) (الأنفال: 2).
إني أخاف الله.. يقولها كل من عف نفسه عن الحرام وألجمها بلجام الخوف من الله.
كم أقضّت مضاجع الصالحين، ومزقت قلوب المتقين، وفتتت أكباد الخاشعين، وقرَّحت عيون الخائفين. وإذا سكن الخوف في القلب أحرق مواضع الشهوات فيه، وطرد رغبة الدنيا عنه، أما القلب الذي لم تسكنه خشية الله فكيف له أن يقلع عن المعصية ويرتدع عن الهوى؟ يقول أبو سليمان الداراني: «ما فارق الخوف قلباً إلا خرب» (مدارج السالكين).
أهل الخوف من الله لا يقربون الفواحش والمحرمات والقبائح والمنكرات بل (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) (النور: 37)، ترفعوا عن الدنايا فأكرمهم ربهم بأعظم العطايا (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) (الرحمن: 46)، (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات: 40).
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ الله في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ...» وذكر منهم: «ورجلٌ دَعَتْه امرأةٌ ذاتُ مَنْصِبٍ وجَمَالٍ فقال: «إِني أَخاف الله» رواه مسلم. عفة يقطر منها الخوف من الله، أجرها وافر يستحقها كل من ارتقى إلى سماء الفضيلة والشرف والعفة والطهارة والكرامة.
«إني أخاف الله» قالها يوسف عليه السلام لامرأة العزيز التي هامت به وشُغفت بحبه وراودته عن نفسه فاستعصم: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ..) (يوسف: 23)؛ صورة صارخة من الإغراء والإثارة، وأجواء مهيأة لاقتراف المنكر، ولكن يوسف عليه السلام يقاوم تلك المغريات والشهوات ويتذكر رقابة الله وعظمته وخوفه فيلوذ بِحِماه ويصرخ: (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (يوسف:23).
تتكرر محاولاتها اليائسة ويأتي التهديد والوعيد، أو السجن والتقييد، ويرفض يوسف عليه السلام تلك الشهوة المحرمة، ويفضّل السجن والعذاب ابتغاء مرضاة الله ويقول: (رَبّ السِّجْن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ...) (يوسف: 33)، فيستحق أن يكون من عباد الله المخلصين، والعاقبة للمتقين.
فتنة النساء وما أخطرها من فتنة، إنها مبدأ الرذيلة والانحلال، وسبب الفحش والبلاء، إغراء وإغراء، تزين وتفنن وافتتان. وقد حذر النبي (ص) من تلك الفتنة الظلماء؛ فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» (صحيح البخاري).
فتنة النساء لا ينجو منها إلا المؤمنون الذين استعلوا بإيمانهم على كل الشهوات والمغريات والأهواء، لا ينجو من شباكها إلا المتقون: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) (الأعراف: 201).
فكم من خطوة زلت بها القدم فتبعتها خطوات وأغرقت صاحبها في مستنقع الشهوات، وكم من نظرة تحلو في العاجلة، ومرارتها لا تطاق في الآخرة. فتعساً لمن هتك الستر بينه وبين الله وبارزه بالمعاصي والذنوب، وجعل الله أهون الناظرين إليه.
قال وهب بن منبه: جاء في الكتب المتقدمة: إذا أرخى العبد ستره وعاقر الله بالمعاصي ناداه الله من فوق سبع سموات: يا عبدي أجعلتني أهون الناظرين إليك؟
المعصية باب مغلق، فمن تجرأ على فتحه مرة فسوف يسهل عليه فتحه مرات، فيقع فريسة الشهوات، ومعظم النار من مستصغر الشرر!
أما سلفنا الصالح فقد:
عفت جوارحهم عن كل فاحشة
فالصدق مذهبهم والخوف والوجل
كان بعضهم يقول: «زهدنا الله وإياكم في الحرام زُهدَ من قدر عليه في الخلوة فعلم أن الله يراه فتركه من خشيته». وقال سفيان الثوري لأصحابه وقد خرجوا في يوم عيد: «إن أول ما نبدأ به يومنا هو عفة أبصارنا».
لله درهم ما أعفهم، وما أطهرهم، وما أخوفهم، استحيوا من الله فهابوه أن يراهم حيث نهاهم، فحفظهم في جوارحهم وطهرهم من ذنوبهم، وثبتهم في أصعب المواقف، فهذا الربيع بن خيثم، كان عابداً، خاشعاً، شريفاً، عفيفاً... ولقد تملّك الحسد بعض شباب عصره فأمروا امرأة ذات جمال بارع أن تترصد له عند باب المسجد لعلها تفتنه، وجعلوا لها إن فعلت ذلك ألف درهم، فلبست أحسن الثياب، وتطيبت بأطيب العطور، ثم تعرضت له حين خروجه من المسجد وهي سافرة، فراعه أمرها فقال لها: كيف بك لو نزلتْ الحُمّى بجسمك فغيرتْ ما أرى من لونك وبهجتك؟ أم كيف بك لو نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين، أم كيف بك لو قد سألك منكر ونكير؟ فصرخت المرأة صرخة، وسقطت مغشياً عليها. فلما أفاقت، قالت: ربي أني تبت إليك وبلغت من عبادة ربها أنها كانت يوم ماتت كأنها جذع محترق.
لذة العفة والخوف من الله لا يعرفها إلا أصحاب القلوب الخاشعة والعيون الباكية والنفوس المشفقة من مصيرها، الخائفة من موقفها بين يدي ربها.
فطوبى للمؤمنين والمؤمنات، الخاشعين والخاشعات، والعفيفين والعفيفات الذين استجابوا لنداء الله: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ - وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا...) (النور: 30-31).
طوبى لمن امتثلت قول نبيها (ص) لتبلغ المنزل: «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» (جامع الترمذي).
فيا بنة الإسلام.. أيتها الطاهرة المصونة بالحجاب، يا أخت فاطمة وبنت خديجة وعائشة والخنساء، عفافك عنوان إسلامك فلا تهدميه ولا تضيعيه فتخسري مفاتيح جناتك.
إن العفاف هو السماء فحلِّقي
وبطيبِ أخلاق الكرام تطيَّبي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة