ورضوان من الله أكبر
الرضا هو الحصن الحصين، والسياج المتين، الذي يحمي المسلم من أعاصير الحياة، وأمواجها وتقلباتها.
الرضا نعمة روحية لا يعرفها إلا أهل التقوى والإيمان والصلاح، الذين يتنافسون لنيل محبته ورضاه، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة: 207)، لا يعرف لذة الرضا إلا من ذاق طعم الإيمان ورضي بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد (صلى الله عليه وسلم) نبياً ورسولاً. لا يعرف حلاوة الرضا إلا من اطمئن إلى عدل الله وعلمه وحكمته ورحمته. يرضى بما قضى الله وقدره ولو أصابته البأساء والضراء، يعلم علم اليقين أن الله لم يبتلِه ليهلكه ولا ليعذبه ولا لينتقم منه، إنما ليطهره ويقربه، وأن الله سبحانه له أن يفعل ما يشاء ولا راد لقضائه ولا لحكمه، وأنه أعلم بما ينفع عباده وما يضرهم، إرادته نافذة وقضاؤه محتوم وليس للعبد إلا الرضا والاستسلام والخضوع. والمؤمن يؤمن أن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء كما قال (صلى الله عليه وسلم): «إنّ عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السُّخط» رواه الترمذي،وابن ماجه، وهو حديث حسن. فالمؤمن ينسجم مع كل ألوان الحياة بحلوها ومرها، بيُسرها وعُسرها، بمِنَحها ومِحَنها، راضياً بالله حامداً له شاكراً، يرضى بما قسمه الله له، يرضى بما قدره له وقضاه، يرضى بالله عن كل ما سواه.
والرضا متبادل بين الخالق والمخلوق، بين العابد والمعبود، بين الرزاق والمرزوق، والله تعالى يرضى عن عبده الذي يمتثل لأوامره ويجتنب نواهيه ويتقرب إليه. يقول الحسن البصري: ارْضَ عن الله يرضَ الله عنك، وأعط الله الحق من نفسك؛ أما سمعتَ ما قال تبارك وتعالى: (رضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (التوبة: 100)
سمع الحسن رضي الله عنه رجلاً يقول: اللهم ارض عني، فقال له الحسن: لو رضيت أنت عن الله فسوف يرضى الله عنك، فتعجب الرجل وقال: وكيف أرضى عن الله؟ فقال الحسن: إذا سررت بالنقمة سرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله وسوف يرضى الله عنك. لقد كان السلف الصالح رضا الله غايتهم، يتواصَوْن به لرفعة منزلته؛ فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يقول: «أما بعد فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر».
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، واجتنب ما حرم الله تكن أورع الناس وأدّ ما افترض عليك تكن من أعبد الناس، ولا تشكُ من هو أرحم منك إلى من لا يرحمك، واستعن بالله تكن من أهل خاصته.
وما أكثر صور الرضا عندهم: عمران بن حصين صحابي جليل يصاب بشلل كامل يُقعده الفراش ثلاثين سنة، جاء أصحابه لعيادته، وعندما رأَوْه على تلك الحالة بكَوْا فنظر إليهم قائلاً: أنتم تبكون أما أنا فراضٍ، أُحِبّ ما أحبه الله، وأرضى بما ارتضاه الله، وأسعد بما اختاره الله، وأُشهدكم أني راضٍ.
أما عروة بن الزبير رضي الله عنه فقد اجتمعت عليه مصائب ومحن، أصابت رجله الأَكَلة فقُطعت من ركبته، وسقط ابنٌ له من سطح بيت في نفس الليلة فوقع تحت أرجل الدواب فداسته فمات، دخل عليه أصحابه لتعزيته والحيرة على وجوهم بما يعزّونه، فالرجل لم يجزع ولم يبكِ، ولم يشكُ، وإنما قال: اللهم لك الحمد كانوا سبعة (يعني أولاده) فأخذت واحداً وأبقيت ستة، وكن أربعاً (يعني أطرافاً) فأخذت واحدة وأبقيت ثلاثاً، وأيمنك لئن كنت أخذت لقد أبقيت، ولئن كنت ابتليت لقد عافيت!!
إنه الرضا ذروة سنام الإيمان... لله درّهم من رجال، كم ربّاهم الإسلام! قرت أعينهم بالله فلم يبالوا بما أصابهم ابتغاء مرضاة الله.
قال أحدهم: أحببت الله حباً هوّن عليّ كل مصيبة ورضّاني بكل بلية فلا أبالي مع حبي إياه علام أصبحت وعلام أمسيت.
ذلّ وتعس مَن أرضى الخلق دون الخالق، وخاصم ربه ومولاه في أحكامه وقضائه وقسمته لعباده! يقول (صلى الله عليه وسلم): «من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس» وهو حديث صحيح. سئل يحيى بن معاذ رضي الله عنه: متى يبلغ العبد مقام الرضا؟ قال: إذا أقام نفسه على أربعة أصول يعامل بها ربه يقول: «إن أعطيتني قبلت، وإن منعتني رضيت، وإن تركتني عبدت، وإن دعوتني أجبت»، وإذا وصل العبد إلى هذا المقام فأي نعيم ينتظره؟ ينتظر (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 72). إن الجنة وما فيها من نعيم لتتضاءل أمام رضوان الرحمن الرحيم فما أعظمه من فوز (ورضوان من الله أكبر) رضوان يحلّه الله على أهل الرضا، ما أعظمها من ثمرة، يقول (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: «إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة؟ فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، فقالوا: يارب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فقال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً.
فلنبادر، ولنسابق إلى باب الله الأعظم، إلى رضا في الدنيا يزيل مرارة آلامنا وأحزاننا، وهمومنا وغمومنا، نسترْوِح نسمات الرضا والاطمئنان لننعم بما بشر به ربنا المؤمنين والمؤمنات بالنعيم المقيم (ورضوان من الله أكبر) وذلك هو الفوز العظيم
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة