(بنت الشاطىء) مكافحة من أجل الثقافة
ُعدّ الدكتورة عائشة عبد الرحمن من أشهر الشخصيات الأدبية المعاصرة التي أثبتت بجدارة مكانتها وحضورها على مستوى الفكر الإسلامي والأدبي؛ فلقد كانت رحمها الله أول امرأة تحاضر بالأزهر الشريف، ومن أولَيَات الأديبات اللاتي اشتغلن بالصحافة في مصر.. ولقد منحتها العديد من المؤسسات الإسلامية عضوية لم تمنحها لغيرها من النساء مثل "مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة"، كما أَطلق اسمها على الكثير من المدارس وقاعات المحاضرات في العديد من الدول العربية.
مولدها ونشأتها
ولدت عائشة محمد علي عبد الرحمن في مدينة دمياط بشمال دلتا مصر في منتصف نوفمبر عام 1912م، ترعرعت في بيت علم وفضل، فقد كان والدها عالماً من علمــاء الأزهر وأحد شيوخ المعهد الديني بدمياط، وكان يصحبها معه إلى مجالس العلم ويسمح لها بالاطلاع على مكتبته الزاخرة بالعلوم الإسلامية؛ فتفتحت مداركها على جلسات الفقه والأدب.
كفاحها في طلب العلم
تلقت تعليمها الأول في كُتّاب القرية؛ فحفظت القرآن الكريم، وعندما أصبحت في سن السابعة أرادت الالتحاق بالمدرسة لكن والدها رفض ذلك لأن تقاليد الأسرة تأبى خروج البنات من المنزل، ولكنها استطاعت الالتحاق بمدرسة اللوزي الأميرية للبنات بمساعدة جَدِّها لأمها الشيخ إبراهيم الدمهوجي الذي أقنع والدها بانضمامها مع رفيقاتها في التعليم المدني... فحصلت منها على الشهادة الابتدائية.
وأكملت بعدها مسيرتها العلمية من المنزل، وقد أبدت نبوغاً في تلك المرحلة تجلى بتفوّقها على قريناتها؛ وحصلت على شهادة الكفاءة للمعلمات عام 1929م بترتيب الأولى على القُطْر المصري كله، ثم الشهادة الثانوية عام 1931م.
عانت بنت الشاطئ كل المعاناة من موقف والدها ومجتمعها الريفي الذي كان يَعد دخول البنات إلى المدرسة أو الجامعة عيباً في ذلك الوقت عند الامتحان، لكنها لم تخضع للضغوطات. يقول المؤلف الدكتور حسن المالكي: مضت في طريقها، وظل الوالد يعتبر خروجها من البيت مخالفة. ولكنهما لم يَفقدا الاتصال والحب المتبادل؛ فجمعت بنت الشاطئ بين ثقافتها الدينية وثقافة عصرها، وكانت واعية تماماً لما يدور حولها، فأخذت النافع، وتركت الفاسد". والتحقت عائشة بجامعة القاهرة لتتخرج من كلية الآداب - قسم اللغة العربية عام 1939م، لتنال بعدها الماجستير عام 1941م.
زواجها
تزوجت بنت الشاطئ وهي في السنة الجامعية الثانية من أستاذها الذي كان له أبلغ الأثر في حياتها وهو الشيخ "أمين الخولي". وقد أشار الكاتب رجاء النقاش في كتابه "أجمل قصص الحب من الشرق والغرب" إلى أن هذا الحب كان سبباً للثورة على بنت الشاطئ، ومن أجله تحمّلت الكثير من النقد القاسي والمقاطعة التي أصرَّ عليها بعض المقربين منها حيث كان الخولي متزوجاً، فرضيت أن تكون زوجة ثانية.
ولم تشغلها حياتها الزوجية وإنجابها لثلاثة من الأبناء عن مواصلة مسيرة العلم؛ فنالت درجة الدكتوراه بتقدير امتياز عام 1950م.
زهدها
يقول د. "محمّد سليم العوا": "كانت تستصغر الدُّنيا، فلم تبك على شيء منها قط، وإنّما بكت على فَقْد الأحبة، ولا سيما ابنتها "أمينة" وابنها الأكبر "أكمَل" - رحمهما الله ورحمها - اللذان توفّيا أعقاب عملية جراحية. وأشهد - عن قربٍ منها يزيد على ثلاثين عاماً - أنّها كانت من كبريات الزاهدات في الدُّنيا كلِّها: مالاً وجاهاً، ومظهراً ومَطْعماً وملبساً، وكان زهدها ممارسة عملية، لا عبارات تطلقها تجذب انتباه السامعين، ويكذِّبها العمل".
مسيرتها العلمية
كانت الدكتورة عائشة عبد الرحمن أستاذة جامعية، ساهمت في تخريج أجيال من العلماء والمفكرين من تسع دول عربية قامت بالتدريس فيها، وهي أستاذ كرسي اللغة العربية وآدابها في جامعة عين شمس بمصر، وأستاذ زائر لجامعات أم درمان والخرطوم 1967م، والجزائر 1968 م، وبيروت 1972م، وجامعة الإمارات 1981م، وكلية التربية للبنات في الرياض 1975- 1983م.
كاتبة أدبية مرموقة لها دراسات لغوية وأدبية منها: نص رسالة الغفران للمعري، الخنساء الشاعرة العربية الأولى، مقدمة في المنهج، قيم جديدة للأدب العربي، وسيرتها الذاتية «على الجسر». كما أسهمت في تحقيق الكثير من المخطوطات والوثائق وكتب التراث.. وكان مضمون أطروحة الدكتوراه عن: "رسالة الغفران" للمعرّي، وكان يوم المناقشة يوماً مشهوداً في الحياة الأدبية بالقاهرة، وجدير بالذكر أن اشتغالها بالتحقيق في نص بالغ الصعوبة يعبِّر عن شخصيتها الفذّة؛ فلقد اختارت طريقاً صعباً كان إلى ذلك الحين مقصوراً على نوعية معينة من الرجال، وبذلك تكون رائدة في هذا الميدان•
بالإضافة إلى ذلك كانت مفكّرة إسلامية، تشغلها قضايا الإسلام والمسلمين وقضايا أمتها، ولقد خاضت عائشة معارك فكرية شهيرة، أبرزها: معركتها ضد التفسير العصري للقرآن الكريم ذَوْدًا عن التراث، ومواجهتها الشهيرة للبهائيَّة مسلِّطةً الضوء على علاقة البهائية بالصهيونية العالمية، بالإضافة إلى أبحاثها حول الحديث النبوي: تدوينه ومناهج دراسته ومصطلحاته. كما أخذت عائشة على عاتقها قضية الدّفاع عن تعليم المرأة؛ ويتجلّى ذلك من خلال كتاباتها عن سيدات بيت النبوة، ومن أهم القضايا التي ناضلت من أجلها قضية الريف والفلاّح.
ثم هي كاتبة صحفية لها قلمها السيَّال؛ فلقد بدأت النشر منذ كان سنُّها 18 سنة في مجلة النهضة النسائية، ثم بعدها في جـــريـــدة الأهرام؛ ونــــظراً لتقاليد أسرتها اختارت التوقيع باسم (بنت الشاطئ)؛ فكانت ثاني امرأة تكتب فيها حتى وفاتها.
خلّفت بنت الشاطئ وراءها أكثر من (40) كتاباً في شتى المجالات؛ وأبرز كـتبها: التفسير البياني لـلقرآن الكريم، القرآن وقضايا الإنسان، وتراجم سيدات بيت النبوة. وكانت كتاباتها موضوعاً لدراسات غربية ورسائل جامعية في الغرب وفي أوزبكستان واليابان.
وفاتها
توفيت الدكتورة عائشة بعد إصابتها بأزمة قلبية في مطلع ديسمبر 1998م، وقد أقيمت لها جنازة مهيبة حضرها كوكبة من العلماء والمفكرين، كما أقامت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية سُرادق لتقبّل العزاء فيها.
إنّ النشأة الصالحة، والمثابرة والإرادة الصُّلبة وقوة العزيمة والإصرار.. كلها عوامل جعلت بنت الشاطىء تختلف كثيراً عن بنات جنسها في ذلك الوقت، حتى تميّزت في الحياة الثقافية والعلمية وتبوأت فيها مكاناً بارزاً. فحريٌّ بنا أن نستلهم من سيرتها الدروس والعِبر ونحن نشق طريقنا في دروب العلم والحياة.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة