مَجْنُونُ لَيْلَى بَعْدَ رَمَضَان
يُقال: إن مجنون ليلى قد بَلَغَ من تأثُّره بعشقها وشَغَفه بحبها: أنها تسلَّلت إليه في أحد الأيام، فلما التقت به وأقبلت عليه بكل شوق ولهفة، لم يَعْرفها وذُهل عنها، وقال لها وهو لا يُدْرك من يُخاطب: (إليكِ عنّي ابتعدي فإني مشغول بحب ليلى)!!!
اقتحَمَ رمضانُ بحضوره القلوبَ بكل قوة، وكأنه صَعْق كهربائي يعيد إلى القلوبِ المترددةِ الحيويةَ، ويجدد فيها النشاط، وما كادت تمر بضعة أيام حتى تناقصتْ صفوفُ صلاة الفجر والتراويح في المساجد، وعندما دخل العشر الأواخر استعاد الكثيرون منا أنفاسهم لخوض جَولةٍ جديدة؛ لعلنا نُوَفَّق لِنُوَافِق تلك الليلة المباركة التي هي خير من ألف شهر، وما يكاد إمام التراويح يختم القرآن في ليلة 27 حتى تَفْتُرَ كثيرٌ من الهمم، وتَقَبَّلَ الله منا ومنكم الطاعات وكل عام وأنتم بخير نلقاكم في رمضان القادم!
كأننا شُغلنا بالهدية عن المُهدي، وبالسفير عن المُرسِل، وبِحُبِّ ليلى عن ليلى نفسها، وبرمضان عن رب رمضان!
لا يستطيع أحد أن ينكر عادةً استحالةَ استمرار الإنسان على الوتيرة العالية التي سَعِد بها في رمضان، وذلك بفضل الله الذي يضاعفُ عطاءاته فيه ويهيئُ الأسباب والأجواء المناسبة والمرغِّبة في الإقبال عليه، ولكن... هل يعني ذلك أنَّ توقُّفَ مَدَافع الإفطار، وسكوتَ أذان الإمساك، وارتفاعَ أصوات تكبيرات العيد: يتطلب منا الانصراف التام والتراجع المُرعِب؟!
إذا كان رمضان أشبه ما يكون بدورة تأهيلية، فليس من العقل والحكمة أن يبذل الإنسان وقته وماله لخوض الدورات واكتساب المهارات ثم يضيِّعها بكل استخفاف؟!
وإذا كان رمضان شهرَ عُمْقِ الصلة بالله وتَذَوُّقِ حلاوة الإيمان فكيف يطيق الإنسان الانصراف عن الله بعد معرفته، والبُعد عن الحلاوة بعد تذوقها (ومن ذاق عَرَف، ومن عَرَفَ غَرَف)؟!
إن الكفاحَ والثبات هو الذي يُنتج النجاحَ والنَّبات، هذه قاعدة معروفة في كل الشؤون، وقد لازم أبو حنيفة شيخه حَمّاد بن أبي سليمان 18 سنة حتى تُوفِّي -رحمهما الله- وقال: "ثَبَتُّ فَنَبَتُّ". هذه هي الحقيقة وإن كانت صعبة على البعض أو مُرَّة على آخرين:
لِكُلٍّ إلى شَأْوِ العُلَى حَرَكاتُ ولكنْ قَلِيلٌ في الرجال ثبَاتُ
هذا هو التميُّز والرُّقي والتحدِّي؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ...﴾ [هود: 112].
فهل سنستثمر مكتسباتنا الرمضانية ونحافظ على نماذج من فقرات برنامج رمضان في حياتنا اليومية بعد رمضان؟!
هل سنحافظ على الصلوات الخمس، وبالأخص الفجر والعشاء مع جماعة المسجد؟!
هل سنتخذ وِرداً يوميًّا من القرآن ولو كان قصيراً حتى لا نكون ممن هَجَر القرآن؟!
هل ستتحوَّل "الروح الرياضية" الرمضانية "إني صائم" في مواجهة المشكلات والاستفزاز إلى حِلْم مترسِّخ في السجية؟!
هل سنودِّع الصيام أم نواعده اللقاء في الست من شوال، وأيام الإثنين والخميس؟!
هل سنفتخر بانتمائنا إلى الإسلام في عقائده ونُظُمه السياسية والقانونية علانية كما أعلنّا دون حياء انتمائنا إلى ركب الصائمين؟! أم ستنتصر علينا العلمانية فنكون مسلمين بصيامنا غير مسلمين في بقية حياتنا؟! والعياذ بالله تعالى.
إذا استطعنا أن نجعل من رمضان محطة للسلوك إلى الله (لا هدفاً أخيراً ونهاية المطاف) سنستطيع أن نخرج منه متزوِّدين بالوَقود الذي نحتاجه، أكثرَ قوة وإيماناً، أحسنَ أخلاقاً، أعمقَ ثقافة بديننا.
أيها الصائمون والصائمات: من كان يعبد رمضان فها هو رمضان قد ولّى بعد أن حَلّ، ومن كان يعبد الله فإنه رب رمضان وسائر الشهور وهو حيّ لا يموت.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
هل تظنُّون؟!
السنوار... رسالة الرمق الأخير
فلْتَكُنِ العربيّة مادّة وازنة!
من شموس المشرقين.. في تاريخ هذا الدين!
فكُن إيجابيًّا