لماذا تراجع المسلمون حضارياً؟
كتب بواسطة بقلم: سهاد عكيلة
التاريخ:
فى : المقالات العامة
1284 مشاهدة
في تراثنا العربي مثال شعبي يقول: "الذي يجرّب المجرّب يكُون عقله مخرّباً" غير أن العرب أنفسهم مصرّون على تكرار تجاربهم نفسها بكل ما تحمله من فشل، وبالتالي هم أكثر إصراراً على الكشف عن مدى خراب عقولهم.
ولعل الدليل الأقرب والأقوى على ذلك: سياستهم في التعاطي مع اليهود، رغم التاريخ الطويل من الصراع بكل ما اشتمل عليه من جرائم ومجازر واغتصاب للأرض، وتهديم وتجريف للمساكن، وتلويث للبيئة... وبكل ما تضمنه على الصعيد السياسي من نقض للعهود والمواثيق والاتفاقيات، ومن قفز على المعاهدات والقوانين الدولية... رغم هذا التاريخ الحافل... ثم رغم أن المسلمين ليسوا بحاجة لمعرفة اليهود من واقع تجربتهم، لأن الله سبحانه كفانا في كتابه عملية البحث والتنقيب عن هؤلاء، ووفر علينا جهد التجربة، حيث بَسَط لهذه الأمة صفاتهم المنطوية على الكفر والإجرام والكذب والتحريف والخيانة والمراوغة ونقض العهود والمواثيق والتحايل على دين الله والحسد والبغضاء والعداوة للذين آمنوا، والذل، والجُبن، والحرص على الحياة، والمسارعة في الكفر... وكل هذا التبيين لكي تكون الأمة على بيِّنة من أمرها فلا تنخدع ولا تتخبط، فمن هذه الآيات:
(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ...) (المائدة : 82)، (أوَ كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون)، (مِنَالَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَاوَعَصَيْنَا...) (النساء: 46)، (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُمِنْ فَضْلِهِ... ) (النساء: 54)، (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَالسَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (البقرة: 59)، (... أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌبِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًاتَقْتُلُونَ) (البقرة: 87)، (... فَبِمَانَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةًيُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) (المائدة: 13)، (ضُرِبَتْعَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍمِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُالْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِوَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوايَعْتَدُون) (آل عمران: 112)، (لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاّ فِي قُرًىمُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْجَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (الحشر: 14)، (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِفَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا) (النساء: 53)، (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِعَلَى حَيَاة...) (البقرة: 96).
هذا الحشد من الآيات لم يأتِ في سياق العرض التاريخي لأخذ العلم والخبر فقط، وإنما جاء لتربية الأمة الإسلامية على كيفية التعاطي مع هذا النمط من خلق الله: لمفاصلتهم، مع العدل التام في التعامل معهم في ظل الحكم الإسلامي إن لم يكونوا من المحاربين، وللاستعلاء بإيماننا عليهم، ولكي نتلمس طريقنا على هدًى، فلا تضيع أوقاتنا وجهودنا في اختراع أساليب وسياسات لبلورة هذه العلاقة.
ذلك الذي رضيه الله لنا، وهو الذي ينفع الأمة، أما الواقع فيشهد أننا للأسف لم نستفد من الدروس القرآنية العظيمة في العلاقة معهم، ولم نَصُغ سياساتنا وفق المفهوم القرآني، بل نبذ حكامنا القرآن وراء ظهورهم، واتبعوا ما تتلوه شياطين "الكنيست" و"البيت الأسود"... فما كانت النتيجة؟
النتيجة تمثلت في استعصاء اليهود على الأمة الإسلامية رغم جُبنهم وباطلهم، وذلك لأن الأمة تركت مكان قيادة البشرية شاغراً بسبب انحراف سوادها الأعظم عن المنهج الرباني، فجاء أراذل الخلق وأحطّهم في ميزان الله واحتلوه ليس لأنهم الأجدر، بل لأن المسلمين رضوا بأن يكونوا الأضعف حضارياً، فقد تخلفوا في جميع ميادين المعرفة بعد أن كانوا ساداتها، فافتقدتهم مراكز البحوث، ومختبرات العلوم والتكنولوجيا، افتقدتهم معامل التصنيع والإنتاج... وأصبحوا يأكلون مما لا يزرعون، ويلبسون مما لا ينسجون، ويستهلكون أفكاراً وثقافات هجينة عن تراثنا الإسلامي.
ولهذا التراجع الحضاري أسبابه، أبرزها:
- غياب الفَهم الحقيقي لكتاب الله: فبعد أن كان القرآن الكريم المنهج الذي يحكم حياة سلفنا الصالح، الذي به حكموا العالم، أضحى كأنه من كتب التراث تزيَّن به البيوت والمساجد، أو تتلى آياته في المآتم، وفي أحسن الأحوال يسارع الكثيرون إلى حفظ حروفه دون إقامة حدوده، أو إلى خَتْمه في رمضان عدة ختمات دون تدبّر... هذه هي نوعية صلة معظمنا بكتاب الله، مما ضيّع على الأمة فرصة الاستفادة من كنوزه التي تُغني حياتها، وترسم لأبنائها خارطة طريقهم إلى إقامة حكم الله في الأرض. وما أعمق قول ربنا: (أفلا يتدبّرون القرآن؟ أَمْ على قلوب أَقفالُها؟)...
أجل... إنها الأقفال التي حالت دون فهم القلوب لآيات الله، بل إنها الأقفال التي دفعت هذه القلوب إلى اتخاذ تلك الآيات سُلَّماً يتسلقون عليه باعتباره مستنداً شرعياً يمرِّرون من خلاله مخططاتهم، فيُسقطونها إسقاطات مجردة من دلالاتها وظروفها، من ذلك استدلالهم على جواز الصلح مع اليهود بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السِّلم كافة)، (وإن جنحوا للسَّلم فاجنح لها)، وفي السياق نفسه فهموا "صلح الحديبية"، دون أن يدركوا شروط إقامة المعاهدات مع غير المسلمين، ولست هنا بصدد تفسير الآيات وتحليل الأحداث والأحاديث، وإنما أقدم نموذجاً من الفهم العقيم للذين خُتم على قلوبهم، فراحوا يستنطقون الآيات والأحاديث بحسب أهوائهم.
والواقع إن تهافت المهرولين نحو التفاوض مع اليهود وعقد اتفاقيات الاستسلام معهم وما يتطلب ذلك منهم من جهود سياسية وإعلامية للترويج لفكرتهم، ومن فتاوى "مشايخ السلطان" التي تقدم لهم تفسيرات جاهزة وتحت الطلب لأي نص قرآني أو نبوي يدعم مواقفهم التفريطية... إن هذا التهافت رغم كل المعطيات السياسية والواقعية القاضية بفشل المفاوضات قبل بدئها، ورغم وجود الشروط المذلة والمهينة للمفاوضين الفلسطينيين، وأيضاً رغم رفض أبناء الأمة عموماً وأهل فلسطين في الداخل والخارج خصوصاً لها... كل ذلك له أسباب لا تنبع من حرصهم على مصلحة القضية الفسطينية، وإنما تنبع من مصالحهم الشخصية ومن حرصهم على بقاء السلطة ولو على أنقاض فلسطين، ولو أدى ذلك إلى إبادة الشعب الفلسطيني... لذلك هم يبذلون مياه وجوههم، ويقدمون التنازلات... ويجتهدون في تنحية كل من يقف في طريقهم؛ ولما كان الجهاد في سبيل الله هو العقبة الكؤود التي تقف في وجه أطماعهم، فقد سعوا لإقصائه عن مسار القضية، وللتنكيل بكل مَن يحمل رايته، وعليه فإن التنسيق الأمني مع الصهاينة للتخلص من إزعاجهم يصبح مشروعاً، وجعل الصهاينة والأمريكان أولياء وأوصياء عليهم يعتبر من الواقعية السياسية، والله يقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهممنكم فإنه منهم)، ويقول تعالى أيضاً: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ اللهَ ورسوله...)... وما دروا أن الجهاد في سبيل الله هو الصخرة الشماء التي تتحطم عندها شراسة المعتدين، وبأن كل ما هم فيه من ذل وهوان إنما من تركهم لهذه الفريضة العظيمة، قال صلى الله عليه وسلم: "ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا".
- غياب التخطيط لدى الأمة: إن الأمم في سياق بنائها لحضاراتها تخطط لمئة عام مقبلة، والمسلمون – إلا من رحم الله - في أحسن أحوالهم يخططون ليومهم أو لأسبوعهم! فمعلوم أن اليهود عندما اغتصبوا فلسطين كانوا قد خططوا لذلك قبل خمسين عاماً في مؤتمرهم الصهيوني الأول "بازل" في سويسرا (1897م) وبالتأكيد ذلك المؤتمر التاريخي سبقته مخططات أخرى حتى كان بذلك النجاح! فأين الخطط المضادة التي تواجه فيها الأمة مصيرها؟ وأين القادة الذين يخطِّطون؟
فحكام الأمة مشغولون بالحفاظ على الكراسي لهم ولأبنائهم من بعدهم، وبالسعي لزيادة أرصدتهم في البنوك العالمية، وببناء الأبراج الناطحة للسحاب...
وأثرياؤها – إلا من رحم الله – منتشرون في أصقاع الأرض ينزفون المليارات على متعهم الرخيصة، وقد قرأت أن أحدهم اشترى سيارة فارهة مطلية بالذهب بمليون جنيه إسترليني، وآخر اشترى شقة فاخرة في لندن بمئة مليون جنيه إسترليني... فلكم الله يا منكوبي فيضانات باكستان! ولكم الله يا كل المحرومين في العالم الإسلامي... إن الله سائلهم عن كل قرش فيما أنفقوه... فليُعِدوا من الآن الجواب.
أما الفئة الكبيرة من مثقفيها - ممن قدمت لهم وسائل الإعلام أبواقها – فمنهمكة في استيراد الأفكار الغربية وإعادة إنتاجها وتفريخها في مجتمعاتنا...
في حين نجد الأغلبية الساحقة من أبناء الأمة يُضنون أنفسهم في تأمين لقمة العيش التي سرقها حكامهم!
وأفراد الأمة وجماعاتها بشكل عام مشغولون إما بخاصة أنفسهم وشؤونهم أو بخلافاتهم!
فمن ذا الذي سيخطط لهذه الأمة؟
- اختلاط المفاهيم: درجنا على مفهوم حتمية انتصار الحق على قوة الباطل، غير أن الذين حفّظونا هذا المفهوم لم يرشدونا إلى الكيفية التي يتحقق بها... فالحق لن ينتصر دون أن نحقق التوازن في المعادلة بينه وبين القوة، فهو يحتاج إلى قوة تدعمه وتسانده وتفرضه على أرض الواقع: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"... مما خدّر الأمة وأصابها بداء التواكل فتقاعست عن دورها بحجة أن الحق سينتصر لا محالة، دون إعداد ولا استعداد، ودون فهم لأسباب نصر أو هزيمة الشعوب.
ولقد عمّق هذا المفهوم في حس الشعوب: حكامهم، ذلك أنه لا طاقة لهم بالمواجهة فمن مصلحتهم تخدير الشعوب ودغدغة أحلامها بوعود بلانتصار، ومثقفوهم – إلا من رحم الله - أكملوا المسرحية فزيفوا وعيها حتى لا تتنبه إلى الحقيقة المرة.
- الإعلام الهابط: وسائل الإعلام العربيأفسدت أخلاق الشباب المسلم وطمست على قلوبهم بما تروِّج له مُجون عبر شاشاتها، وعبثت بعقولهم بما تبثه من سموم تسوِّق للفكر الغربي، وآخر هذه السموم ما راج في عدد من تلك الوسائل من عبارة: أنا مسلم.. أنا ضد الإرهاب، في تكريسٍ خبيث للصفة التي ألصقها الغرب زوراً وبهتاناً بالمسلمين، ثم إقناع المسلمين بأنهم كذلك وهم بالتالي مضطرون لدفع التهمة عنهم... والمهزلة الحاصلة في هذا العالم أن كل المجازر التي ارتكبها الأمريكان وحلفاؤهم في العراق وأفغانستان، والتي ارتكبها الصهاينة في فلسطين، والتي ارتكبها الهندوس في كشمير، وتلك التي أوقعها الروس بأهلنا في الشيشان وكوسوفا والبوسنة والهرسك... هذا الكم الهائل من الإرهاب الدولي المنظم ألا يحتاج من وسائل الإعلام إلى إقامة حملة للتشهير به وللكشف عن وجهه الهمجي القبيح؟
لسنا بحاجة لأن ندفع التهمة عنا، بل نريد أن نُرهب أعداءنا بقوة الحق التي بين أيدينا بعد أن نُعدّ العدة: (وأَعِدّوا لهم ما استطعتم من قوة)، والمطلوب من مصدِّري الإرهاب الحقيقي بمفهومه اللاإنساني أن يدفعوا للضحايا الأبرياء فاتورة جرائمهم المخزية، وأن يقفوا أمام محكمة التاريخ لكي يقدموا الحساب.
***
وبعد، فرغم هذا الواقع الأليم الذي نعيشه، فالخير في هذه الأمة لا ينقضي، ولكن نحتاج إلى تضافر الجهود والطاقات على صعيد الأفراد والمؤسسات لاستخراج هذا الخير أكثر فأكثر وتوظيفه لتحقيق أهدافنا العليا وعلى رأسها الهدف الأكبر: إقامة حكم الله في الأرض وملئها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة