ثقافةُ الحياة
كتب بواسطة بقلم: سهاد عكيلة
التاريخ:
فى : المقالات العامة
1176 مشاهدة
رمضان... الدورة الروحية التي تُبقي القلب غضاً متصلاً بالسماء، التي "يعمل" فيها العابدون دأباً لمدة شهر، ثم يأتيهم الحصاد من ربهم الكريم.
الحج... الاحتفالية العالمية التي يحتشد فيها الملايين، كلهم جاؤوا ملبّين نداء الرحمن، مجتهدين في "العمل" ليعودوا كما وُلدوا... صفحات بيضاء نقية خالية من الذنوب.
الهجرة... المحطة الحضارية الفاصلة في التاريخ الإنساني، التي خطّط لها المسلمون وجَدّوا في "العمل"وبذلوا ما بذلوا من التضحيات للفرار بدينهم.
وهكذا هي المحطات الإيمانية... حبّاتٌ تنتظم في عِقد المنهج الإسلامي يجمعها رابط واحد ويبعث فيها الحياة والحركة... إنه "رابط العمل"، وهو في مصطلح الإداريين والمهتمين بعلم تطوير القدرات وتنمية المهارات: "الإنجاز"... هذا الذي ميّز الأمة الإسلامية منذ تَشكُّلها: (وقل اعملوا فسيرى اللهُ عملَكم ورسولُه والمؤمنون)، وهو هو - بعدما اقترن بقوة الإيمان - الذي فُتحت به الدنيا... وما ورد "الإيمان" في القرآن إلا تبعه "العمل الصالح": (الذين آمنوا وعملوا الصالحات...).
إنها إرادة إلهية وسُنة كونية ألاّ تستقيم الحياة و"تُعمَر" بغير عمل، وقانون ينطبق على جميع الكائنات الحية؛ وما قاعدة "الأخذ بالأسباب" إلا مسمّى آخر للسعي والبذل والعمل... ثم على الله النتائج يوردها علينا بعلمه وحكمته ورحمته.
وما سُميت "الصحوة الإسلامية" بذلك إلا لِما صاحبها من "وعيٍِ" بما آل إليه واقع الأمة و"عملٍ" لتغييره.
ففي رمضان والحج والهجرة, وكذا الجهاد في سبيل الله... يسعى العابدون العاملون المجاهدون سعيهم ليظفروا بالحياة الدنيوية والأبدية معاً، في الدنيا: حياة كريمة عزيزة تتوّجها طاعة الرحمن، وفي الآخرة: حياة فيها "ما لا عينٌ رأت ولا أُذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر".
إذاً هي معادلة لا تستقيم إلا باندماج جميع مكوِّناتها... إنها "معادلة الحياة" التي أعطت بعض الشعوب نفحة من اسمها ووصفها: "الشعوب الحية"، التي ما استحقت هذا الوصف إلا لأنها كلما نُكبت وتمّ التآمر عليها لسلب الحياة منها، عادت وانتفضت ونهضت "تعمل" من جديد، و"تبني" ما دُمر، و"تُنجز"ما عجز الأكثرون عن إنجازه. وما من أمة تقاعست عن العمل للارتقاء بواقعها إلا ذلّت ونكصت وعادت إلى نقطة "الصفر" أو تحته بقليلٍ أو كثير.
ولو أردنا أن نجعل أحد تلك الشعوب مقياساً لتطبيق ذلك القانون لما وجدنا من هو أكثر جدارة من شعب غزةالمحاصرة التي يتآمر على أهلها القريب قبل البعيد، ويخنقها لكي تَذِل وتركع... غير أنها كلما خُنقت تنسّمت هواء الحرية، وكلما حوصرت أبدعت، وكلما حوربت صبرت وقَوِيت وانتفض أهلها متَحدّين الحصار والحرب والدمار وكل السياسات الجائرة والمجازر الدموية لكي يقولوا كلمتهم عملاً وإنجازاً وإبداعاً؛ شاهدنا ونشاهد ترجمة ذلك في محطات كثيرة، طيلة سنوات الحصار وعقب "معركة الفرقان" مباشرة، في الابتكارات المستمرة التي يحاول أصحابها كسر الحصار من خلالها: من اعتماد سياسة حفر الأنفاق، إلى بروز بعض الاختراعات هنا أو هناك، ومنها السيارة التي تسير بالزيت بدل البنزين، ومنها الطاقة الشمسية بدل الكهرباء والغاز، ومنها رواج الطب البديل الذي يوفر عليهم تكلفة الأدوية الكيميائية الباهظة، التي تفتقد أسواق غزة أكثرها، ومنها، ومنها...والحاجة أُمّ الاختراع...
ومن نماذج العمل الدؤوب الذي ينمّ عن قوة التصميم وإرادة الحياة لهذا الشعب:
· تخريج وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في غزة لـ 13 ألف طالب وطالبة حفظوا كتاب الله تعالى (في 2 تشرين الأول) في مخيمات صيفية تحمل عنوان: "جيل القرآن... للأقصى عنوان"، وقد تفاءلت الوزارة أن يحقق جيل القرآن نصر الله بتحرير القدس والمسجد الأقصى. وهو تحدٍّ مفاده أن الذي نحارَب من أجله نزداد به تمسُّكاً ونورِّثه للأجيال القادمة... أجيال الانتصار. بحسب موقع قناة الأقصى الفضائية.
· تنظيم عرس جماعي (في 31 تشرين الأول) لتزويج سبعين من جرحى ومعوَّقي "معركة الفرقان": حيث جاءت الرسالة واضحة على لسان رئيس الوزراء الحافظ لكتاب الله رئيس الوزراء إسماعيل هنيةالذي وقف بين العرسان متحدّياً آلة القتل والدمار الصهيونية، معلناً بأننا شعبٌ حيّ لا تفتّّ في عَضُدنا صنوف الابتلاءات، بل نخرج منها أمضى عزيمة، وأكثر قدرة على التحدي، وعلى العطاء.
· معرض للتقنية المتطورة(في 15 تشرين الثاني) في خطوة تحدٍّ جديدة للمحاصِرين عديمي الإنسانية الذين يصادرون كل أسباب الحياة في غزة، هذا المعرض يهدف إلى إيجاد حلول بديلة لمواجهة تَبِعات الحصار، بحسب ما ورد في موقع الجزيرة نت.
· قطار العيد(في آب 2010): في غزة عقول أبدعت قطاراً يرفِّه عن الأطفال ويرسم البسمة على الوجوه البريئة المكلومة... يأمل القائمون عليه أن يصنعوا قطاراً حقيقياً يربط غزة بالقدس والضفة الغربية وباقي فلسطين، ويصرِّحون بقدرتهم على ذلك بإذن الله. يقول القائمون على المشروع: "عليكم تزويدنا بالمواد الخام وخذوا قطاراً بمواصفات أوروبية، وإن لم يرُق لكم أعيدوه إلينا". في حين يقول المموِّل للمشروع، وهو أحد ثلاثة هم أصحاب الفكرة، ميسرة مسعود الحلو: "صنعنا قطاراً رغم الحصار، لم نكن سوبرمان، لقد واجهنا مشاكل كبرى، ولكننا تغلّبنا عليها بقوة وصبر وإرادة ...".
ومما يرسِّخ هذا المعنى قول الشاعر:
ولو أقعد الحصار أهله لألفيناهم موتى يمشون على الأرض، غير أن فَهم هؤلاء للمنهج الإسلامي علّمهم "ثقافة الحياة" في مقابل "ثقافة الموت" التي يزرعها الصهاينة في كل مكان... وجعل الإتقان في العمل سبباً للظَّفَر بمحبّة الله: "إنّ اللهَ يحبُّ إذا عَمِل أحدُكم عملاً أن يُتقنه"، وحضّ على العمل حتى الرمق الأخير: "إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فَسِيلة فإن استطاع ألاّ تقومَ حتى يَغرِسَها فلْيغرسْها" رواه أحمد... وغيرها الكثير الكثير من الآيات والأحاديث التي جعلت العمل بمختلف أبعاده محورها... لأنه محور الحياة وعمودها الفِقريّ.
ولعل هذا الفَهم ما دفع أهالي مدينة رهط لتقديم نموذج آخر من صور إرادة الحياة؛ حيث تداعَوا لإعادة بناء مسجدهم عقب هدم الصهاينة له (خلال الشهر الجاري) مباشرة، وأمام أعينهم وآلياتهم، متحدّين صَلَفهم في رسالة أعلنوها صراحةً: أنتم تهدمون ونحن نبني... لن نيأس أبداً.
فمن ذا الذي يدّعي بعد بأن الإسلام يربي على ثقافة الموت؟
أجل، إنها "ثقافة الحياة"التي يُشرق بها الأمل بغدٍ أفضل، ويتطلّع من خلالها أولئك الذين ينبضون حياةً وإيماناً لليوم الذي يرَوْن فيه أرضهم وقد تطهّرت، ومنهجهم وقد حَكَم، ورايتهم وقد عَلَتْ... وهي التي تجعلهم يُودِعون الأرضَ ثمرات قلوبهم وتوائم أرواحهم في الصباح ليُكملوا المسيرة ظُهر اليوم نفسه مُقْبِلين غير مُدْبِرين، محطِّمين قيود الحزن والأسى، ماضين في طريقهم على درب الحياة.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة