لن نستسلم للذبح.. ولن نسلّم الأرض للأعداء
-1-
لم أقرأ كل ما كُتب عن مجزرة الحولة الرهيبة الأخيرة، ولكن أزعم أنني قرأت كثيراً منه، ولم أجد في كل ما قرأت مَن فكّر بشكر الطائفة الكريمة. كيف سهوتم عن ذلك يا أيها الكتّاب والمعلّقون؟ لقد أفقدتكم الصدمة حسّ اللباقة الذي يتمتع به السوريون، وإنكم لَمعذورون. فلنتدارك الأمر إذن ولنوجه الشكر اللازم: نشكر الطائفة الكريمة لأن بعض مجرميها ذبحوا مئة من أطفالنا ونسائنا يوم أمس في الحولة، ونشكرها مرة ثانية لأنها أرسلت “مندوبين” عنها إلى قرانا أمس وقبل أمس والذي قبله وقبله وقبله وقبله، إلى حيث يبلغ بكم الصبر على العدّ، فانتهكوا أعراضنا وذبحوا أطفالنا ونهبوا بيوتنا وحرقوا متاجرنا، ونشكرها مرة ثالثة لأن الذين لم يشاركوا في الذبح لم يكلّف أحدٌ منهم نفسَه عناء الشجب والاستنكار.
ذات يوم بدا لبعض المسلمين في بقعة من الأرض أن يهدموا صنماً من أصنام البوذيين، وهو أمر فيه حق ولكنْ كان يغنيهم عن فعله حسنُ السياسة لو فقهوها، فلم يلبث أن استنكر فعلتَهم مسلمون كثيرون في مشرق الأرض ومغربها، من باب المجاملة وضرورات “التعايش السلمي” مع قوم للصنم عندهم قداسة وتاريخ. هذا وهو صنم من حجر، واليوم حَزّت سكاكينُ عصابة من المجرمين الطائفيين أعناقَ خمسين طفلاً وأربعين حرّة من أطفالنا وحرائرنا، فما سمعنا لعامة “عقلاء” الطائفة صوت. أيكون الحجر في أعين المسلمين أعظمَ قيمةً من الروح في أعين العلويين؟ إن كنتم لم تشاركوا في الجريمة ولم ترضوا عنها فلماذا لا تستنكرونها على رؤوس الأشهاد؟ أبقي بعد اليوم مكان لصامت أو واقف على الحياد؟ لقد كاد الصخر الأصم ينطق من هول المأساة وأنتم لا تنطقون!
لقد سكتنا من قبل عن قوم منّا بالغوا في التزلف إلى “الطائفة الكريمة” على حساب مشاعر الضحايا، لحسابات وأوهام من قبيل الوحدة الوطنية والمصلحة الثورية، فلن نسكت بعد اليوم؛ لا والله لا يصف الطائفة بالكرم كريمٌ بعد الذي كان.
-2-
من حسن الحظ أنني أكتب بسنان القلم وأنني بعيد في المكان، ولو كان في يدي سنان غير هذا السنان أو كنت في الميدان لارتكبت حماقة من حماقات الزمان، فإن هذه الحادثة الجسيمة لتذهب بلبّ اللبيب فتتركه مذهولاً حيران، والمذهول قد يخطئ الخطأ الجسيم فيضر نفسه ويضر الإخوان والخلاّن.
لا، لن نستجيب لانفعال يهزّ الوجدان وسوف نفكر بالعقل ونبحث عن الصواب، لأن مَن دفعه عدوُّه إلى تنفيذ خطته لم يكن عاقلاً، وصار عوناً لعدوه على نفسه من حيث لا يشعر ولا يريد.
لماذا ارتكب القتلة الجبناء تلك المجازر؟ يجب أن نعرف الجواب لنبني عليه الرد. فكرت ملياً فلم أهتدِ إلا إلى واحد من اثنين ثالثهما سقيم. الاحتمال الثالث هو الانتقام، أعني رداً على مقتلة المجرمين الكبار في “خلية الأزمة”. هذا الاحتمال ضعيف جداً ولا يفسر الأحداث في مجملها، ولذلك أفضل أن أطّرحه وأركز على الاحتمالين الآخرين: (1) دفع الثورة إلى الصدام الطائفي والحرب الأهلية، وهو أمر ما فتئ النظام يلحّ عليه ويسعى إليه منذ حين. (2) أو إلقاء الرعب في قلوبنا حتى نهجر الأرض ونتخلى عن القرى فيستولي عليها أعداؤنا على أهون سبيل.
إن كانوا أرادوا هذين الأمرين فلن نمكنّهم من أيّهما بإذن الله، وسوف نسعى نحن إلى خيارنا الثالث: لن نسلّمهم أرضنا ولن نتخلى عن ديارنا، ولن نستجيب لإغراء الحرب الأهلية الطائفية، ولكنّا لن نستسلم للذبح الرخيص وسوف يرون منّا -بعون الله وبإذنه- ما يسوؤهم ويردّهم خائبين.
-3-
كأني أسمع الآن أصواتاً تهتف: الدم الدم، ذبحاً بذبح وطفلاً بطفل. لو استجبنا للهتاف لساعَدْنا النظام على تحقيق حلم من أحلامه الكبار. إن العصابة الحاكمة في سوريا تدرك أن أيامها في الحياة باتت قليلة، وهي من أجل ذلك تتوسل بكل وسيلة لإطالة عمرها القصير، فإذا اشتعلت نار الحرب الأهلية الطائفية انشغل الناس بعضهم ببعض وحصلت العصابة على فرصة ذهبية لالتقاط أنفاسها وإعادة بناء قوتها المتهاوية. لا تمنحوا العصابة المجرمة الحاكمة تلك الفرصة. إن يكن الصبر صعباً فإنه أقل صعوبةً من السقوط في الهاوية، ومهما كان الألم الذي يسببه العض على الجراح فإن انفجار الحرب الطائفية أشد ألماً وأكثر ضرراً بما لا يكاد يُقاس.
لا أريد أن أناقش مسألة الانتقام العشوائي من الناحية الأخلاقية، لقد فعلت من قبل، إنما يهمني في هذا المقام أن أبحث عن مصلحة الثورة وسلامة الناس. المشكلة أن الانتقام ليس فعلاً مستقلاً معزولاً قائماً بذاته، بل هو جزء من سياق له فعل سابق وله فعل لاحق؛ يسبقه عدوان ظالم يؤجج الغضب ويطلق أسوأ الغرائز البشرية من عقالها، فثَمّ يكون الانتقام أعمىً غيرَ بصير عشوائياً يشمل المذنب والبريء والكبير والصغير. فإذا أصاب بعشوائيته وطيشه مَن لم تكن له في الجريمة يدٌ تأجّج غضبُه كما تأجج غضب المكلومين أولَ مرة، فقام يطلب الثأر وقد كان قاعداً غيرَ مُبالٍ بالنار المشتعلة من حوله، فلا هو يهتم بأن يوقدها ولا هو يهتم بأن يطفئها. كان كذلك حتى أصابته نار الانتقام، فإذا أصابته بشرارها وشُواظها تحول إلى آلة قتل. وهكذا يتحول الفعل الواحد وردّ الفعل العشوائي إلى دائرة مغلقة يغذيها الطرفان، تبدأ صغيرة وكلما دارت دورة اتسعت، فما تزال تتسع حتى تلتهم البلاد. هذه هي فكرة الحرب الأهلية الطائفية، إنها حرب الكل فيها آكلٌ والكل فيها مأكول، إلا العصابة الحاكمة التي أوقدتها وأجّجتها فإنها تراقب النار من بعيد وتبقى غالباً في أمان.
لو أننا شاهدنا الصورة الكاملة المرعبة لأحجمنا عن الانتقام العشوائي، لأننا سندرك أنّ مَن يذبح طفلاً من أطفال عدوه إنما يذبح طفلاً من أطفاله هو نفسه، ومن يقتل امرأة من نساء عدوه إنما يقتل امرأة من نسائه، حيث يغذّي دائرةَ الانتقام المتبادَل التي سيسقط فيها العاجزون -من النساء والأطفال- من الطرفين كالفَراش.
-4-
لا نريد الانتقام ولكن لن نوافق على الاستسلام؛ لا بد من الدفاع عن النفس. سوف تتكرر المآسي الأخيرة مرات ومرات لأن العدو يكافح السكرات، وسوف يحرص على أن يحرق البلاد ليطيل عمره شهوراً أو أياماً أو ساعات. ماذا نصنع لنتجنب المآسي القادمات؟ نترك لهم القرى ونخلي المدن ليستولوا عليها على أهون سبيل؟ إن هذا لا ينبغي أن يكون. يوم الخميس ذبحوا امرأة وأطفالها الأربعة في قرية "قبر فضة" في سهل الغاب، وذبحوا أيضاً ستة من الشبان من بلدة شيزر في ريف حماة، وقبلها بعشرة أيام اجتاحت العصابات الطائفية قرية التمانعة ونفذت مذبحة مشابهة. ماذا يريدون؟ انشروا الخرائط وانظروا إلى سهل الغاب والريف الغربي لحمص وحماة وإدلب، تَرَوا أنه البساط الذي يمتد على السفح الشرقي لجبال العلويين، إنه خزّان غذاء الجبل ورئته الزراعية، فهل يريدون إجلاء أهله عنه وضمّه إلى الجبل؟ إن لم يكن هذا الاحتمال أكيداً فإنه غير مستبعَد، والتخطيط الجيد هو الذي يتوقع الأسوأ ويعدّ العدةَ لمواجهته.
يا أهلنا في الغاب وفي الريف الغربي: استعدوا لما هو أسوأ. إذا كانت هذه المذابح جزءاً من خطة منهجية هدفُها إخلاء مناطقكم وسرقة بلادكم فإن الحملة ما تزال في أولها، وإن ما قد يقوم به الأعداء في الأيام القادمة سيكون أبشع وأفظع لا قدّر الله. لا يُعقَل أن تنتظروا المذابح حتى تنزل بكم في قرية بعد قرية، ولا ينبغي أن تهجروا الأرض وتتركوها للأعداء، فماذا تصنعون؟
أنتم أعلم بحالكم وبما يصلح لكم، وإنما أرى الرأي من بعيد. فلو أن الحملة تفاقمت ونفد الصبر وبلغ الاحتمال غايته فخيرٌ من الموت أو الهجرة أن تجتمع القرى الصغيرة المتقاربة معاً في واحدة منها، يجتمع أهل كل ثلاث قرى أو خمس في الأكبر منها، ولينشئ شبّانها من بينهم كتيبة للدفاع عنها تستعين بأقرب جماعة من جماعات الجيش الحر (وهي كثيرة منتشرة في تلك الأرياف) فتوفر لها التدريب الضروري والسلاح اللازم، فإن لم يمكنها بعد ذلك أن تحمي القرية من قصف جيش الاحتلال فإنها يمكنها أن تردّ عنها الحملات الهمجية التي تقوم بها المليشيات الطائفية من القرى القريبة، فتنجو حرائرها وينجو أطفالها وعَجَزتها من الذبح والقتل والاغتصاب.
-5-
إذا وصلنا إلى هذه النقطة سندرك كم نحن مقصرون، بل ربما أدركنا (وأرجو أن يكون إدراكنا قبل فوات الأوان) أننا نحن الذين نُسْلم إخوتَنا هناك للذبح وأننا نحن الذين نساعد عدوهم على إجلائهم عن أرضهم.
نحن الأغنياء الذين نستطيع تقديم المساعدة، من سوريين مغتربين ومن عرب ومسلمين، كان ينبغي علينا أن نقوّي إخواننا هناك وأن نساعدهم على امتلاك السلاح الذي يدافعون به عن أنفسهم. أليس في كل قرية وناحية آلاف من الذين يودّون لو يحملون السلاح؟ بلى والله، ولو حملوه لردّوا أولئك المجرمين عن قراهم ولصانوا الدماء والأعراض. فما لنا نخذلهم في موطن لا يجوز فيه لأخ أن يخذل أخاه؟
لن يردّ السلاحُ الخفيف مدافعَ الجيش ودباباته، وها هو جيش الاحتلال يشنّ حملة ضخمة على سهل الغاب والريف الغربي لحماة وإدلب وحمص منذ شهور، حملة استُشهد فيها المئات من المدنيين الأبرياء تحت القصف في قلعة المضيق واللطامنة والرستن والقصير وغيرها من المدن والقرى والبلدات، ولكنه موت كريم، موت في حرب ظالمة يشنها جيش محتل على أصحاب الأرض العزّل الأبرياء، أما أن نستسلم للذبح الهيّن المُهين فأمر لا ينبغي لنا أن نفعله ولا أن نرضاه. إنه أمر لن يرضاه إخوانكم لأهليهم، ولا يريدون منكم إلا أن تساعدوهم على شراء سلاح يدافعون به عن الأطفال أنْ تحزّ رقابَهم السكاكينُ وعن الأعراض أن تُستباح.
يا أيها الناس: إنها معركة الدماء والأعراض. من كان يستطيع أن يساعد ببعض ماله فينقذ من الهتك عرضاً ومن الذبح طفلاً ثم لم يساعد فلا سامحه الله!
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن